الرئيسية / مقالات رأي / Project Syndicate: أمريكا لا تزال قوة لا يمكن الاستغناء عنها

Project Syndicate: أمريكا لا تزال قوة لا يمكن الاستغناء عنها

الشرق اليوم- على الرغم من أخطاء الماضي الفادحة في إدارة الولايات المتحدة للسياسة الخارجية، فإنها تعتبر الدولة الوحيدة التي تتمتع بالعقلية السياسية والقوة التكنولوجية والاقتصادية والعسكرية اللازمة لفرض تأثيرها المهدئ على المنطقة.

كان هذا العقد مبتلى بالفعل بعودة التنافس بين القوى العظمى حتى قبل اندلاع الجائحة، والواقع أن قِـلة من التطورات كانت ستشكل تهديدا أكبر للسلام العالمي، فقد ساعدت ثلاث حروب عالمية- حربان ساخنتان وواحدة باردة- شهدها القرن العشرين في تسليط الضوء على المخاطر المترتبة على المنافسة الجيوسياسية العالية المخاطر.

يرى العديد من المراقبين أن عصر التنافس بين القوى العظمى بدا وكأنه انتهى إلى الأبد بتفكك الاتحاد السوفياتي، ولكن تبين أن هذا الافتراض كان أحد أشد الأخطاء خطورة في فترة ما بعد الحرب الباردة. لم يكن من الممكن دعم ادعاء الإمبراطورية العالمية- لحظة أحادية القطبية حقا في تاريخ العالم- الذي خرجت به علينا النخب السياسية الأميركية، كما لم يكن من الممكن تقديم البرهان على “السلام الأبدي” الذي توقعه الأوروبيون في أعقاب “نهاية التاريخ” في عام 1989، عندما حققت الديمقراطية الليبرالية الغربية واقتصاد السوق انتصارهما المزعوم على كل البدائل.

على العكس من كل هذا، اتسمت العقود التي تلت نهاية الحرب الباردة بخسارة النظام الدولي، وباعتبارها آخر قوة عالمية متبقية، استنزفت الولايات المتحدة نفسها في حروب لا طائل منها في بلاد ما بين النهرين (العراق) ومنطقة الهندوكوش (أفغانستان وشمال غرب باكستان)، وأصبحت منذ ذلك الحين منغمسة في ذاتها على نحو متزايد.

بدأ النظام الدولي الذي أقامته أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية يتفكك، تاركا فراغات في السلطة سعت إلى شغلها قوى أخرى: روسيا، والصين، وتركيا، وإيران، والمملكة العربية السعودية. الأسوأ من ذلك أن خطر الانتشار النووي عاد فجأة إلى الصدارة، حيث بدأت قوى إقليمية أصغر حجما بذل المساعي لإنشاء ترسانات نووية خاصة بها.

علاوة على ذلك، برزت الصين خلال العقد الأخير كقوة عالمية قادرة على تحدي القوة المهيمنة القائمة، وتجسدت الخصومة الجديدة بشكل كامل بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة في عام 2016، وبدأت أميركا تلاحق أجندة قومية ضيقة الأفق، وانبعثت الفوضى داخل النظام العالمي من القمة على نحو متزايد.

كان فراغ السلطة الناتج عن ذلك شديد الوضوح في الشرق الأوسط، فقد أنهت الولايات المتحدة حربها الباهظة والعبثية في العراق ثم واصلت لإلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية في سورية، وبعد أن أصبحت مكتفية ذاتيا في تدبير احتياجاتها من الطاقة باستغلال المصادر المحلية لاستخراج النفط والغاز الصخريين، كانت أمريكا حريصة على الانسحاب العسكري الكامل من المنطقة. في غضون ذلك، كانت إيران تتأهب لاستغلال رحيل الولايات المتحدة، وسرعان ما انتهت بها الحال إلى صراع متصاعد مع المملكة العربية السعودية، وإمارات الخليج، وإسرائيل لفرض هيمنتها الإقليمية، مما أدى إلى تغذية حرب مروعة بالوكالة في اليمن.

بالإضافة إلى الإشارة علنا إلى نيتها سحب الولايات المتحدة من المنطقة، تخلت إدارة ترامب أيضا عن الدور التقليدي الذي أدته أمريكا في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وعلى مدار عقود من الزمن، دفعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة في اتجاه حل الدولتين والتسوية العادلة بين إسرائيل والفلسطينيين، حتى مع بقائها على التزامها التام بحماية إسرائيل، لكن إدارة ترامب دعمت إسرائيل بشكل كامل وغير مشروط، الأمر الذي أدى إلى خلق انطباع بأن الفلسطينيين لم يعد بوسعهم أن يؤدوا أي دور.

أفضى نهج إدارة ترامب في التعامل مع هذه القضية، إلى جانب التهديد الذي تفرضه إيران، إلى إقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل وأربع دول عربية، ولكن مع المواجهة المسلحة الأخيرة بين حماس وإسرائيل، تبدد وهم إمكانية تهميش الفلسطينيين إلى الأبد ببساطة.

اشتمل الصراع الأخير على اشتباكات عنيفة حول المسجد الأقصى، وعلى عكس الأحداث السابقة، وقعت اشتباكات عنيفة أيضا بين المواطنين اليهود والعرب في المدن المختلطة في قلب إسرائيل، وينبغي لنا أن نستخلص من كل هذا أربعة دروس في حين يستمر وقف إطلاق النار الحالي:

أولا، حتى لو لم يعد حل الدولتين يبدو واقعيا، فإن نبذه سياسيا من شأنه أن يؤدي بشكل مباشر تقريبا إلى مواجهة مشحونة جدآ.

ثانيا، لن يقف الفلسطينيون والإسرائيليون العرب مكتوفي الأيدي ببساطة ولن يسمحوا بتجاهلهم في التسويات السياسية الإقليمية.

ثالثا، من غير الممكن أن يستمر الاحتلال الإسرائيلي إلى ما لا نهاية.

وأخيرا، لا يجوز للولايات المتحدة أن تتخلى ببساطة عن المنطقة بسبب قلة الاهتمام، على الأقل إذا كانت راغبة في الحفاظ على دورها كقوة عالمية رائدة.

كشفت عودة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني عن التوزيع الحقيقي للقوة في الشرق الأوسط، وعلى الرغم من كل التغيرات التي حدثت في العقود القليلة الأخيرة، تظل الحقيقة أن الاستقرار يعتمد على الولايات المتحدة، ورغم أن أمريكا لم تعد راغبة في التورط في المنطقة، فإنها ليس لديها أي اختيار سوى الاستمرار في القيام بدورها هناك، خشية أن تتصاعد الحرائق الصغيرة في المنطقة لتتحول إلى حريق عالمي هائل مصحوب بتهديدات نووية.

بعبارة أخرى، يثبت الشرق الأوسط أنه بلقان هذا القرن، فكما كانت الحال في يوغوسلافيا السابقة في تسعينيات القرن العشرين، تُـعَـد أمريكا القوة العالمية أو الإقليمية الوحيدة القادرة على ضمان السلام الإقليمي أو على الأقل منع اندلاع حرب شاملة، وتـود روسيا لو تتولى هذا الدور، لكنها غير قادرة على ذلك. (لم تتمكن من التدخل في سورية بهذا القدر إلا لأن الولايات المتحدة رفضت القيام بذلك).

أما عن الصين، فلا مصلحة لها في تولي دور أمريكا في الشرق الأوسط، ولا يمكنها أن تفعل حتى لو كانت راغبة في ذلك، والواقع أن النظام الصيني لا يتبنى ببساطة عقلية الضامن لنظام عالمي بعيدا عن حدودها.

ماذا عن أوروبا؟ رغم أنها ستكون واحدة من الضحايا الرئيسيين في حال زعزعة الاستقرار الإقليمي، فإنها لم تعد قوة معتبرة توضع في الحسبان، وعلى هذا فقد كانت حريصة على تقليل مشاركتها بما لا يتجاوز توفير الموارد المالية في الاستجابة للأزمة الأخيرة، ومع ذلك، تضطلع أوروبا بدور داعم مهم.

أخيرا، بين اللاعبين الإقليميين، تود تركيا لو تزيد من تدخلاتها، لكن يعوقها ضعفها والتاريخ المشحون للدور الذي أدته الإمبراطورية في الشرق الأوسط. وتحصر كل من إيران والمملكة العربية السعودية نفسهما في ملاحقة مطالباتها بالهيمنة على العالم الإسلامي، وتظل إسرائيل على تركيزها على الدفاع عن نفسها.

بهذا لا يتبقى سوى الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أخطاء الماضي الفادحة في إدارتها للسياسة الخارجية، فإن الولايات المتحدة تُـعَـد الدولة الوحيدة التي تتمتع بالعقلية السياسية والقوة التكنولوجية والاقتصادية والعسكرية اللازمة لفرض تأثيرها المهدئ على المنطقة. قد تكون النتيجة الأسوأ من منظور النظام الدولي استمرار ميل الولايات المتحدة إلى العزلة الذاتية، وقد أثبتت رئاسة ترامب بالفعل حجم المخاطر التي قد تترتب على مثل هذه الحال.

شاهد أيضاً

كيسنجر يطارد بلينكن

بقلم: غسان شربل – صحيفة الشرق الأوسط الشرق اليوم- ذهب أنتوني بلينكن إلى جامعة هارفارد. …