الرئيسية / مقالات رأي / رحيل كيسنجر وبقاء الواقعية السياسية

رحيل كيسنجر وبقاء الواقعية السياسية

بقلم: عبد الحق عزوزي- الشرق الأوسط
الشرق اليوم– هنري كيسنجر هو واحد من منظري وخدام الواقعية السياسية في الولايات المتحدة الأميركية؛ عرف بذكائه الخارق وبتكهناته الجيوسياسية وبمراوغاته الدبلوماسية وبسعة اطلاعه إلى أن وصف بالثعلب والساحر؛ وطبعت سياسته ومراوغاته وقائع دولية متنوعة من قبيل أحداث الفيتنام والاتحاد السوفياتي والصراع العربي – الإسرائيلي.

لم يقبر اسمه عندما لم يعد كبير الدبلوماسيين بعد انتهاء إدارتي نيكسون وفورد، بل العكس من ذلك، فقد أضحى مستشاراً معلناً وغير معلن لكل الإدارات الأمريكية وواحداً من سفرائها ومنظريها لتكريس الهيمنة الأميركية وترويج سياساتها.

كنت قد دعوته ذات مرة هو والسيد دافيد روكفيلير للمشاركة في أحد الملتقيات الدولية التي كنت قد نظمتها منذ أزيد من عقد من الزمن حول الفضاء المتوسطي؛ وهو رجل يبهرك عندما يأخذ الكلمة لسعة اطلاعه ولتحدثه بثقة لا متناهية وبأسلوب سهل لأنه خبر عالم الجامعة وفن الإلقاء وإيصال المعلومة للطلبة، وأظن أن مناصبه الحكومية والاستشارية تقوت بصفته الأكاديمية والجامعية الأولى.

بدأ مشواره جامعياً تخرج من جامعة هارفارد، والتحق بهيئة التدريس فيها وهناك صقل شخصيته الفكرية والعلمية إلى درجة أنه أسس فيها ابتداء من بداية خمسينات القرن الماضي الندوة الدولية التي تجمع كل صيف حوالي العشرات من كبار الشخصيات الأجنبية لحضور برنامج تكويني ومحاضرات دقيقة ونقاشات مطولة، مكنه ذلك من التواصل مع شخصيات دولية وتكوين شبكة علاقات عابرة للقارات.

شغل منصب مدير «برنامج هارفارد للدراسات الدفاعية»، ومستشاراً في الشؤون الأمنية لمختلف الوكالات الأميركية وعين مساعداً للرئيس ريتشارد نيكسون لشؤون الأمن القومي في ديسمبر (كانون الأول) 1968، قبل أن يتولى منصب رئيس مجلس الأمن القومي بين عامي 1969 و1975 ووزير خارجية بين سنوات 1973 و1977، وهو أول شخص مجنس يعمل وزير خارجية، وأول شخص يجمع بين المنصبين؛ وأسس عام 1982 شركة «كيسنجر للاستشارات الدولية» التي تحج إلى فتاويها العديد من مؤسسات ودول العالم.

وأظن أن تكوينه الجامعي وأستاذيته مشفوعة بذكائه الخارق التي يشهد له بها كل من درس معه أو تتلمذ عنه، هي التي ساهمت في وجوده في كل هاته المناصب التي تولاها وفي شهرة شركته الاستشارية وفي مجموعة مؤلفاته في مجال الاستراتيجية والعلاقات الدولية.

واقعيته السياسية مكنته من أن يمأسس للدبلوماسية السرية وأن يصبح رجل التواصل السري؛ وكان من نتائج ذلك الانفتاح الأميركي على الصين، وتطبيع العلاقات بين البلدين بعد رحلتين سريتين قام بهما عام 1971، حيث مهد الطريق لزيارة نيكسون عام 1972، وكان يؤمن بأن عزل الاتحاد السوفياتي أكثر فأكثر يمر من خلال إدماج الصين في الاقتصاد الدولي وعدم عزلها عن النظام العالمي.

كما أن واقعيته السياسية ونهج الانفراج ساعدا في تخفيف التوترات بين أميركا والاتحاد السوفياتي، والتوقيع على العديد من اتفاقيات الحد من الأسلحة؛ ولكن هاته الواقعية السياسية كانت تضع مصالح أميركا ومصالح القوى العالمية فوق مصالح الديمقراطية والقانون الدولي وحقوق الإنسان؛ وقد لاحقته تهمة «مجرم حرب»، وتعالت الدعوات إلى محاكمته فيما جرى من حرب في الفيتنام وكمبوديا، وتآمره على عدد من دول أميركا اللاتينية في سبعينات القرن الماضي مع وكالة المخابرات المركزية (سي آيه إيه) للإطاحة بسلفادور أليندي الماركسي بعد انتخابه رئيساً لتشيلي، ودعم الديكتاتور العسكري بينوشيه، ودعم الانقلاب العسكري بالأرجنتين عام 1976 وغزو تيمور الشمالية عام 1975… وهاته المسائل وغيرها مسطرة في وثائق الأرشيف الوطني الأميركي ومقيدة في كتاب «محاكمة هنري كيسنجر» للصحافي كريستوفر هيتشنز، الذي نشره سنة 2011 (The Trial of Henry Kissinger, Ed. Saint-Simon).

نهج الدكتور كيسنجر سياسة الرحلات المكوكية إلى الشرق الأوسط لوقف حرب 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1973 بين العرب وإسرائيل، لكن ليس حباً في قواعد السلام بل دفاعاً وإنقاذاً لإسرائيل، وذلك من خلال دعمها مادياً ولوجيستياً وأممياً، وتمكينها من تعديل موازين القوى لصالحها؛ ونجح في إقناع الرئيس نيكسون ووزير الدفاع جيمس شليزنغر بإقامة جسر جوي لإمداد إسرائيل بالسلاح والعتاد، وأوقف انعقاد جلسة لمجلس الأمن لإقرار وقف إطلاق النار، وهو من خلال عقيدته، كما كتب ذلك في مذكراته، كان لا يمكنه أن يقبل تعرض إسرائيل للهزيمة، وإن أدى ذلك إلى تدخل أميركي، وإن كان ذلك على حساب قواعد القانون الدولي؛ وهاته العقيدة هي التي تفسر ما يجري اليوم في المنطقة وسياسة ازدواجية المعايير العجيبة التي وإن لم تكتب علناً في أبجديات السياسة الواقعية الأميركية فهي جزء لا يتجزأ منها.

ونتذكر عندما أرادت حكومة بوش الابن التدخل في العراق سنة 2003، رفضت جل الدول الغربية ذلك باسم الشرعية القانونية والدولية وباسم الفلسفة التي يجب أن تصطف فيها الدول في هجوم عسكري ذي أبعاد مجهولة على دولة ذات سيادة. ديك تشيني، دونالد رامسفيلد وكولن باول، كانوا جميعاً يقومون برحلات مكوكية إلى العواصم الأوروبية (عدا بريطانيا التي كانت مؤيدة ومتحالفة مع البيت الأبيض) لإقناع رؤسائها ولكن دون جدوى… وهذا البون الشاسع بين الاتجاه الفقهي القانوني الفلسفي الصرف والاتجاه الاستراتيجي، أو بعبارة أخرى بين الحفاظ على الشرعية القانونية الدولية وبين القضاء على نظام صدام وأهله، مزق في تلك الفترة قواعد التفاهم حول محددات النظام العالمي الذي قادته وتقوده الولايات المتحدة الأميركية إلى درجة أن ديك تشيني وصف أوروبا الغربية بأوروبا العجوز خلافاً لدول أوروبا الشرقية التي كانت مؤيدة للتدخل العسكري… وتشيني من خلال كلامه هذا كان يعني مما يعنيه خطأ غلبة الخزعبلات القانونية والفلسفية الفرنسية والغربية على أولويات المرحلة في العلاقات الدولية التي تفرض ازدواجية المعايير والواقعية الاستراتيجية اللاقانونية بغطاء شبه قانوني وشبه مرضي… فوقع التدخل العسكري الأميركي-البريطاني رغماً عن الرفض الفرنسي-الغربي والمثبطات القانونية في الأمم المتحدة، والبقية معروفة.

شاهد أيضاً

إنصاف «الأونروا»

بقلم: وليد عثمان – صحيفة الخليج الشرق اليوم- لم تكن براءة وكالة الأمم المتحدة لغوث …