الرئيسية / مقالات رأي / بايدن والإدارة بالأزمات

بايدن والإدارة بالأزمات

بقلم: سمير التقي – النهار العربي

الشرق اليوم- تذكّر السبعينات من القرن الماضي الأمريكيين بالقلق والضياع. في حينه كانوا يتحسرون على مصير بلادهم. 

عام 1967 احتل الجيش ديترويت لإخماد معركة بالأسلحة النارية. ثم قتل مارتن لوثر كينغ عام 1968، ورافق ذلك صراع عرقي واسع، وتلاه مقتل بوب كينيدي ثم اندلعت أعمال شغب جماعية من الهيبيز المناهضين للحرب، وسادت أزمة اقتصادية وأسعار الفائدة خيالية تلتها استقالة نيكسون الخ.. وردد الكثيرون “إننا لم نعش أبدا في زمن كهذا”.

لم يكن لكن ذلك غريبا على النظام الرأسمالي الأمريكي الذي يعمل كمرجل تدفعه قوى الإنتاج، ليحرق دورياً كل ما هو تقليدي، ويتحول دور الدولة إلى فن “إدارة الفوضى والأزمات”.

في عشرينيات القرن الماضي، كان الامر كذلك. كان الكساد الكبير، وكوكس كلان، والبطالة والجوع والاضطرابات العمالية والانهيار الاقتصادي، وبدايات الثورة الصناعية وكهربة أمريكا ببعدها الأقصى. في حينه أيضا كانت أمريكا مدينة لشعبها ولأوروبا، دون توافر وسيلة لسدادها، في ظل انهيار اقتصاد الذهب في غرب البلاد.

تحمل الازمة المجتمعية الراهنة الكثير من معالم أزمات الماضي. لكنها تخرج عن المألوف لكونها تتم في ظل أزمات اقتصادية عميقة في العالم بأسره. وتشعر الولايات المتحدة بأن أزمتها القادمة هي الأقل نسبياً، في زمن لا تزال الوقائع المالية والاقتصادية تؤكد أنها لم تفقد جاذبيتها كملاذ لرؤوس الأموال وقوى الإنتاج الجديدة.

يبتلع الاقتصاد الأمريكي الآن تريليونات من الدولارات القادمة من الصين وروسيا وأوكرانيا والهاربة من تداعيات أزمة كوفيد والأزمة الأوكرانية. وأكثر من ذلك، بلغت استثمارات الدول النفطية في الاقتصاد الأمريكي ما يصل إلى عشرين تريليون دولار. ويتوقع، بالسرعة الحالية لنمو الاقتصاد البشري، ان نشاهد أزمات مشابهة في الاقتصاد الأمريكي كل عدة عقود، وفي كل دورة يتصاعد نمو الإنتاج وتتبدل علاقات العمل وقيم المجتمع، ليدخل المجتمع في أزمة مع المؤسسة المتصلبة، إلى ان يأتي رئيس يتولى تفكيكها وإعادة تركيبها.

من 2015 إلى 2020، نضجت ملامح الازمة. ثورة المعلومات، التبدل المجتمعي والأخلاقي، القديم الذي يقاوم الجديد، والجديد يلد بصعوبة كبيرة الخ.

سيحمل التحول الراهن ألماً مذهلاً وحالة من عدم الاستقرار، فهكذا تم اختراع هذه الدولة. وبعد ان كانت أول دولة من العالم الثالث تقهر الإمبراطورية البريطانية، أصبحت أميركا دولة يتم اختراعها كل يوم عبر التجربة.

لم تكن الحكومة ولا الرئيس يوما شيئاً هاما. اذ قامت فكرة الدولة أصلا على مفهوم أقرب للفكر “البرودوني” المشاعي، الذي لا يثق بالحكومة.

يعتقد الامريكيون ان من يريد السلطة لا يجب ان يحكم! لذلك احاطوا الرئيس والحكومة بالكونغرس المنقسم، وبالصلاحيات الهائلة للمحكمة العليا، والتي تخضع بدورها للقضاة الفدراليين في الولايات الخ. وبذلك أمكن اختراع منظومة من التنازع على السيطرة تصل أحياناً إلى حد الشلل.

بعد كوفيد والحرب الأوكرانية، نستطيع القول ان أمريكا أصبحت في منتصف عملية التحول. فمن ترامب الذي حاول إعادة عقارب الساعة للوراء، إلى رئيس يقلب النظام الرأسمالي الأمريكي رأساً على عقب، تظهر لنا ملامح صراع جبابرة الماضي والمستقبل.

بخفة وسطحية شديدة يتهم الكثيرون بايدن بأنه رئيس ضعيف. لكن المؤسسة الحاكمة مع هذا الرئيس الصامت، الناعس أحياناً، تفتح الطريق لقلب التحول الهيكلي من تراث ريغان، رأسا على عقب.

انه ليس ذلك اليساري بيرني ساندرز، بل هو رأسمالي. فبعد ريغان الذي اخرج الولايات المتحدة من ازمة السبعينات، وأطلق الرأسمالية العمياء وأمن التمويل اللازم لإطلاق ثورة المعلومات، يأتي بايدن ليرمي بتجربة ريغان إلى سلة الماضي.

يتحدث بايدن عن “عقد اجتماعي مختلف”. ف”القطاع الخاص لن يحل بحد ذاته أكبر التحديات”. و”توجد عدم مساواة شديدة وأزمة المناخ، وتسرب الناس من القوى العاملة، وتراجع تفوقنا التكنولوجي”. بل يقترح فرض ضرائب جديدة على الشركات العالمية، ويطرح خطته الثالثة بـ2 تريليون دولار لـ”أكبر خطة وظائف منذ الحرب العالمية الثانية”. وتعمل الادارة لتأمين 7.5 تريليون دولار من الإنفاق الجديد، (ضعف ما أنفقته الولايات المتحدة بالدولار المعدل على الحرب العالمية الثانية).

يتركز فيض من الإنفاق الجديد، على البحث والتطوير والبنية التحتية التي تقودها الحكومة ومساعدة ذوي الدخل المنخفض وإعانات ضخمة للصحة ورعاية الأطفال. وتهدف هذه السياسات لاستعادة الموقع المركزي للطبقة الوسطى وفي قيادة التحول الاقتصادي والاجتماعي.

سينجم عن هذه السياسات تحول عميق في المحور الأيديولوجي للاقتصاد العالمي. فبعد عقود تحملت فيها الكرة الأرضية محاضرات “زعامة العالم الحر” حول فضائل العولمة المطلقة وتمزيق الأسواق المحلية وتقليص دور الحكومة، والخصخصة والتجارة الحرة وانضباط السوق، يأتي بايدن ليقلب ظهر المجن. بل لقد ضاعف البنك الدولي في أوائل حزيران يونيو، توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة في يناير من 3.5 في المائة إلى 6.8 في المائة، وهي أسرع وتيرة منذ 1984.

يثير سعي بايدن لاسترداد الصناعات نحو أمريكا قلق بعض أنصار العولمة. فهو يقول “ببساطة لا يوجد سبب يمنع بناء شفرات توربينات الرياح في بيتسبرغ بدلا من بكين”. بل طالب ان “ننسى الفكرة العتيقة بأن الدول الأخرى قد تبني مثل هذه الأشياء بتكلفة أقل أو أفضل” بل يعلن ان الاستثمار الحكومي سيسترشد 100% بمبدأ واحد: صنع في أمريكا.

وتحذر الصين بالفعل من “صراع شرس بين الحياة والموت يمكن أن يحول العالم إلى ساحة معركة”، بحسب “غلوبال تايمز”. وإذ يغضب الأوروبيون من احتفاظ بايدن بتعرفات ترامب على الصلب والألمنيوم فانهم يردون بـ”اشتر أوروبيا”. ولا يبدو أن الولايات المتحدة تعارض ميل أوروبا نحو “الاستقلال الاستراتيجي”. لكن حمائية بايدن تختلف تماما عن أجندة ترامب “أمريكا أولا”.

ثمة صراعات أجيال وطبقات وأقليات وشرائح منقطعة النظير. وفي حين لا أتصور ان في جعبة ترامب الكثير من المياه، لكن عودة أي جمهوري آخر للسلطة تبقى احتمالاً جدياً، ولا تعني إعادة إحياء مشروع ريغان الذي ذهب بغير رجعة. إذ ليس الجمهوريون أقل شعبوية من الديموقراطيين، فلا ترامب قلب البرنامج الصحي لأوباما، ولا بايدن قلب برنامج ترامب لاستعادة أمريكا لصناعاتها ولا في الموقف من الصين.

فالديموقراطية هي إدارة الفوضى أو “الادارة بالأزمات”.

شاهد أيضاً

بأية حال تعود الانتخابات في أمريكا!

بقلم: سمير التقي – النهار العربي الشرق اليوم- كل ثلاثة او أربعة عقود، وفي سياق …