الرئيسية / مقالات رأي / أمريكا وفرنسا.. بين العصا والجزرة

أمريكا وفرنسا.. بين العصا والجزرة

بقلم: محمود حسونة – صحيفة الخليج

الشرق اليوم-‎ الدول أيضاً تتمرد. التابعون يتمردون على الأباطرة والأقطاب، والصغار يتمردون على الكبار. والتمرد قد يكون مجرد صرخة موجوع واستغاثة تائه. وقد يكون بداية انقلاب وسعي جدي لتغيير أوضاع فُرِضت على هذه الدولة أو تلك، وأغرقتها في مشاكل وأزمات لا حل لها سوى فك الارتباط والاستقلال بالقرار عن قطب يورط ويؤذي ولا ينفع، وأحياناً يكون التمرد سعياً للبحث عن حليف أو قطب جديد أقل إجحافاً وأكثر عوناً وأعقل قراراً.

‎ التصريحات التي أدلى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد عودته من الصين، هي شكل من أشكال التمرد على أمريكا، بعد أن ورطت أوروبا معها في العديد من الأزمات، وخطفت منها إرادتها، واستحوذت على قرارها، وحوّلتها من قارة تتحدث ويستمع إليها العالم إلى قارة تنتظر حديث صانع القرار الأمريكي، لتردد من خلفه، وتتبنى ما يريد، فقد دعا ماكرون دول الاتحاد الأوروبي إلى الاستقلال الاستراتيجي كوسيلة لتجنب خطر تحويل دول الاتحاد إلى “تابع” في حالة حدوث أزمة عالمية مثل المواجهة بين الولايات المتحدة والصين. 

‎ كلام ماكرون لم يكن مجرد تصريح عابر، لكنه حديث متمرد ضاق ذرعاً من الممارسات الأمريكية، وتوريطها دول الاتحاد الأوروبي في العديد من الأزمات، والانخراط معها ثم التخلي عنها وقتما تشاء، وهي سياسة أضعفت أوروبا سياسياً، وأنهكتها اقتصادياً، وخلخلت بنيتها الاجتماعية وأشعلت نيران الغضب عند فئات شعبية مختلفة.

‎ماكرون استفاض وعبّر عن مخاوفه من المستقبل “لا نريد الاعتماد على الآخرين في الموضوعات الحرجة”، مشيراً إلى قضايا مثل الطاقة والدفاع ووسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي، محذراً مما سمّاه “الحصانة خارج الحدود الإقليمية” للدولار الأمريكي، والتي يمكن أن تجبر الشركات الأوروبية على التخلي عن التعامل مع دول ثالثة أو المخاطرة بانتهاك العقوبات.

‎ تصريحات خطرة تكتسب أهميتها من أهمية قائلها، فهو ليس خبيراً ولا محللاً سياسياً، وليس وزيراً ولا دبلوماسياً، لكنه رئيس الجمهورية الفرنسية، الذي يفترض أن تهتز لكلماته أمم.

‎ هو شكل من أشكال التمرد ليس جديداً، فتاريخ التمرد الفرنسي على الهيمنة والتسلط الأمريكي، يعود إلى زمن شارل ديغول الذي انتبه وحذر من الخطر الأمريكي على فرنسا وأوروبا، ولا ينبغي نسيان إفراغ الأمريكيين زجاجات النبيذ والشمبانيا الفرنسية في المراحيض، احتجاجاً على انسحاب فرنسا من “الأطلسي”، ولا نسيان انتقاد ديغول للحرب الأمريكية على فيتنام، ولا نسيان موقف الرئيس جاك شيراك من الحرب الأمريكية على العراق، ولا مواقف ماكرون وتصريحاته خلال إدارة ترامب.

‎ فرنسا  تدرك أن القيادة الأمريكية للعالم حولت الكرة الأرضية إلى كرة ملتهبة، هي حروب وأزمات ومؤامرات وقتل وتشريد وفتنة بين الشعوب وتجسس على صنّاع القرار في جهات الأرض الأربع، وتدرك أن أمريكا هي التي ورطت أوروبا في الحرب على أرض أوكرانيا. ولكن أزمة فرنسا أنها لا تستطيع أن تغرد وحيدة خارج السرب الأوروبي؛ لذا فإن تمردها يكون مؤقتاً سرعان ما تعود بعده تحت العباءة الأمريكية، التي تجيد دغدغة مشاعر الأوروبيين، واللعب على وتر التخويف من المتربصين بالغرب والمستهدفين لحضارته، كما تجيد اتباع سياسة الترهيب والترغيب.

‎ قد يكون التمرد الحالي على أمريكا مؤقتاً، وقد تكون الجزرة هي وسيلة أمريكا لإعادة فرنسا تحت المظلة بعد أن أوجعتها لسعات العصا، ولكن ذلك لا ينفي أن رصيد الولايات المتحدة عند الفرنسيين بشكل خاص وبعض الأوروبيين يتضاءل ولا يستبعد أن يأتي وقت ينفد فيه تماماً.

شاهد أيضاً

أيهما أخطر؟

بقلم: محمد الرميحي – النهار العربي الشرق اليوم- جاء الزمن الصعب لنسأل أنفسنا: أيهما الأكثر …