الرئيسية / مقالات رأي / روسيا… أبعد من عملية اغتيال!

روسيا… أبعد من عملية اغتيال!

بقلم:  محمد قواص – النهار العربي

الشرق اليوم- نتاليا فوفك اغتالت داريا دوغينا، ابنة المفكر الروسي ألكسندر دوغين. زرعت عبوة ناسفة في سيارة الضحية التي كان من المفترض أن يكون والدها يستقلها معها، لكنه لسبب ما لم يفعل. المذنبة من جنسية أوكرانية دخلت روسيا مع ابنتها، نفذت مهمتها وغادرت البلاد باتجاه أستونيا. هذه رواية جهاز الـ FSB الروسي بعد ساعات على الانفجار.

لن نتدخل في تقييم مصداقية تلك الرواية التي تطرح في ركاكتها أسئلة حول أسباب العجلة في نسج قصة متسرّعة مدعّمة بالصور والأدلة وفق سيناريو مربك وإخراج مرتجل. وما يهم موسكو من كل هذه القصة أن يكون المتهم أوكرانياً يعتدي على الأمن في موسكو ويهرب إلى دولة غير ودودة مثل أستونيا. على ذلك تصبح أوكرانيا التي غزتها القوات الروسية منذ سبعة أشهر، بلداً إرهابياً أو راعياً للإرهاب يستحق ما يتعرض له من تدمير منهجي ويبرر ما سيتعرض له  وقيادته لاحقاً.

قد يكون مستغرباً أن تملك أجهزة الاستخبارات الأوكرانية، وفق الرواية الروسية، في عزّ كارثة الحرب، ترف إرسال عميلة برفقة ابنتها (12 عاماً) لاغتيال ابنة الكسندر دوغين في موسكو. والضحية ليست شخصية قيادية في روسيا ولا تشغل أي منصب يغير حضوره وغيابه شيئاً في قرار الحرب والسلم الذي يطاول أوكرانيا، وهي ليست سوى “صاحبة القلب الروسي الحقيقي” وفق رثاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وإذا صدق احتمال أن العملية كانت بالأصل تستهدف والد الضحية (استبعدت سلطات موسكو ذلك)، فالأخير، بما يبثّه من دعوات وأفكار معادية لأوكرانيا داعمة لغزو البلد والفتك به، ليس هدفاً مهماً، طالما أنه ليس، ولم يكن يوماً، من الدائرة الضيقة التي تنتج القرار حول الرئيس الروسي.

بالغت الصحافة الغربية، لا سيما الأميركية، قبل سنوات في التحدث عن دور دوغين في خلق الأفكار التي يسير وفقها بوتين. يعترف دوغين نفسه بأنه ليس داخل الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس، لكنه مع ذلك يزعم أن بوتين يتبع أفكاره. فليس صحيحاً كما صار رائجاً أنه “عقل بوتين”، وليس دقيقاً أن نظرياته حول أوراسيا ومجد روسيا هي أفكار لم يأتِ بها غيره. ثم أن بوتين لم يستشهد يوماً بأي فكرة لدوغين، لكنه استشهد مراراً بأفكار منظّر الفاشية الروسية الراحل إيفان إيلين.

قرار الحرب ضد أوكرانيا هو امتداد لشخصية بوتين وذاكرته وتجربته وطباعه ويأتي في سياق بوتينية عرفناها منذ أن تبوأ الرجل قيادة البلاد عام 1991. تعامل بوتين مع أوكرانيا كما سبق أن تعامل مع الشيشان وجورجيا (وسوريا) متشجعاً بموقف العالم من حربه في القرم وضمها إلى روسيا عام 2014. ولئن صفق دوغين لحرب القرم وأطلق نداء “اقتل اقتل اقتل” هناك، فإن الأمر لم يكن إلا من ضمن المسار الذي يسلكه بوتين أياً كان ما تضجّ به كتب دوغين الستون.

مقتل ابنة دوغين أو محاولة استهدافه شخصياً يكشفان أن أموراً تجري في روسيا ولا يعرفها العالم ولا يعرفها الروس أنفسهم. أن تتحرك المتفجرات وتتحول إلى عبوات ناسفة من أجل تنفيذ عملية الاغتيال فهو حدث بحدّ ذاته. اغتيال الضحية أو والدها لا يحتاج إلى ذلك السيناريو المعقّد بما في ذلك استخدام المتفجرات، للوصول إلى هدف لا يتمتع، بحكم واقعه (سواء واقع الابنة أم والدها)، بأي تدابير أمنية أو حراسات مشددة.

يعرف العالم الجدل حول حرب أوكرانيا لدى الدول الغربية. تخُطّ المقالات وتُسطّر التحليلات وتصدر التصريحات وتحتدّ السجالات على نحو يشرح تماماً المواقف الرسمية والحزبية والشعبية من تلك الحرب. ينقل الإعلام الغربي بكل شفافية تبرّم الناس من التضخم وارتفاع أسعار الطاقة والخوف من ندرة امدادات الغاز أو انقطاعها. تخرج التظاهرات هنا، تنظم الاضرابات هناك، وحتى أن الآراء متضاربة متصادمة حول مسائل دعم أوكرانيا أو “تفهّم” روسيا. لكن الروس والعالم لا يعرفون شيئاً مما يحدث في روسيا.

في الأيام والأسابيع الأولى للغزو الروسي شهدت موسكو تظاهرات ضد الحرب. تمّ قمعها واعتقال المتظاهرين وسنّت السلطات القوانين اللازمة لتأثيم المعارضين وفتح أبواب السجون لهم. إثر ذلك غابت أخبار أي اعتراض وجرى ضبط الإعلام وجعله منصاعاً للرواية الرسمية. وعلى هذا لا نعرف ما هي ردود فعل العامة والنخب على عودة جثث آلاف القتلى الروس (80 ألفاً بحسب تقدير الاستخبارات الغربية) الذين قضوا في هذه الحرب ولا نعرف ما هو السجال والجدل والنقاش داخل الطبقة الحاكمة والدوائر المتنفذة حول التكلفة العسكرية والاقتصادية والسياسية لهذه الحرب.

كييف تنفي أي علاقة لها بعملية التفجير في موسكو. لا يهمّ، تحقيق الـ FSB يقفل في روايته المحكمة كل احتمالات أخرى. الداخل تعرض لاعتداء أعداء الخارج. في روسيا من يرى أن انفجار سيارة ابنة الكسندر دوغين يعيد للروس ذكريات التسعينات السوداء حين انتشرت العبوات الناسفة في الشوارع لتصفية الحسابات بين المافيات التي راجت في مرحلة انهيار الاتحاد السوفياتي. ومنهم من يرى أن مقتل داريا دوغينا هو حدث محلي أبعاده بيتية يميط اللثام عن حرب داخلية ما، سواء بين التيارات القومية نفسها التي تدور حول الكرملين، أم بين قوى داخل النظام تتصارع على نحو جدي قد يكون حادث الانفجار ليس سوى إحدى واجهاته ومقدمة لتطورات أكثر خطورة وجسامة.

شاهد أيضاً

روسيا التي لا تساند أحداً… علاقة غير عادلة مع إيران

بقلم: يوسف بدر – النهار العربي الشرق اليوم– في مقالته في صحيفة “وول ستريت جورنال” …