الرئيسية / مقالات رأي / هل أوقع الغرب بوتين في فخ أوكرانيا؟

هل أوقع الغرب بوتين في فخ أوكرانيا؟

بقلم: مهى سمارة – النهار العربي


الشرق اليوم – يتعاطف العالم مع أوكرانيا، الدولة المعتدى عليها، ويتفهم قلق روسيا وهواجسها من اقتراب حلف الناتو من حدودها. وتلعب لعبة المصالح دورها في تحديد مواقف الدول من الحرب الدائرة.
ما هو مستنكر ومدان استباحة دولة أراضي دولة أخرى ذات سيادة، وإخضاع شعب لخيارات غير التي يريدها.
بوتين في “المهمة الخاصة”، كما يحلو له وصف الغزو، يريد تأديب أوكرانيا وإعادتها إلى بيت الطاعة، وبشروط استسلامية قد يكون من الصعب على الأوكرانيين قبولها. واضح أن بوتين يريد الانتقام من دول المنظومة الاشتراكية السابقة التي اختارت الابتعاد عن موسكو والتقرب من الغرب والانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. أوكرانيا تمثل درساً قاسياً يريد بوتين تلقينه للدول الأخرى، ما يعني أنه لن يستبعد توسيع الحرب ونقلها إلى دول أخرى محيطة بأوكرانيا إذا أمكن.
أسلوب بوتين الخشن والدموي يعتمد على استعمال القوة المفرطة، اللغة الوحيدة التي يتعامل بها لإخضاع الخصم الأضعف منه. لا يقيم وزناً للسيادة الوطنية ولا للشرعية الدولية ومواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان، ولا يأبه لحق تقرير المصير الذي صاغه ويدرو ويلسن قبل مئة عام، ولا يقر بأن من حق كل شعب أن يختار نظامه السياسي وطريقة حياته. أوكرانيا كغيرها من دول حلف وارسو السابق، اختارت النموذج الغربي وتبنّت النظام البرلماني الديموقراطي والتعددية الحزبية والحريات الفردية واقتصاد السوق بعد 1991.
لم تتمكن روسيا، لا ماضياً ولا حاضراً، من تقديم نموذج أو “موديل” تحتذيه الدول، باستثناء الدول المارقة القليلة العدد والعديمة التأثير، لا الاتحاد السوفياتي ولا الفيدرالية الروسية استطاعا إنتاج نموذج شبيه أو منافس للنموذج الأميركي/ الأوروبي الذي تحول حلماً لطالبي الهجرة واللاجئين.
منذ سقوط الاتحاد السوفياتي شهدت أوكرانيا صراعاً سياسياً وعقائدياً كبيراً بين نهجين: تغييري وتقليدي. التغييريون ينشدون الحرية والانفتاح والازدهار والحد من سيطرة روسيا. التقليديون يريدون إبقاء القديم على قدمه والاستمرار تحت عباءة موسكو وهيمنتها. الثورة البرتقالية التي انطلقت في 2004 راوحت بين مد وجزر، فتارة يأتي رئيس حليف لموسكو وتارة يستبدل به آخر ضدها. هذا الاستقطاب السياسي يعبّر عن انقسام الأوكرانيين. غرب أوكرانيا هو أقرب إلى أوروبا، بينما شرق أوكرانيا أقرب إلى روسيا. أهالي كييف ولفيف ينشدون اقتباس حياة البولنديين والألمان وطريقة تفكيرهم ومعيشتهم، بينما سكان دونباس التي تستضيف جاليات روسية يميلون الى موسكو.
أوكرانيا تعيش نسخة جديدة من صراع الهويات والقوميات. الأوكرانيون يتمسكون بهويتهم الوطنية وقوميتهم الخاصة المختلفة عن روسيا. الروس شديدو الارتباط بالأرض “روسيا الأم”، وفخورون بتراثهم ويعتبرون روسيا أم الإمبراطوريات التي ضمّت أراضي جيرانها وسكانها في وقت من الأوقات، ومنها أوكرانيا التي يصفها بعض الروس المتحمسين بـ”روسيا الصغرى”.
من تلك الخلفية التاريخية والقومية قرر بوتين اقتحام أوكرانيا والتوسع بضم المناطق الانفصالية وجزيرة القرم، تحت مبررات أنها كانت جزءاً من الإمبراطورية الروسية الغابرة، وسكانها روس قرروا الانفصال عن كييف وإقامة حكومات ذاتية بتشجيع موسكو ومساعدتها.
منطق بوتين لقضم المناطق الانفصالية وجزيرة القرم يشبه مبررات غزوات هتلر ونزواته عندما أراد استرجاع سوتلاند في تشيكوسلوفاكيا وأنشلوس في النمسا بحجة وجود أقليات ألمانية مضطهدة. بوتين في غزوته الأوكرانية جدد صور إيفان المخيف الذي يريد إرهاب جيرانه وإخضاعهم بالقوة لهيمنة روسيا ونفوذها.
اللغز المحيّر أن أهداف بوتين غير معروفة وغير محددة. هل يريد تقسيم أوكرانيا إلى قسمين شرقي وغربي، وتعاد تجربة ألمانيا التي عاش فيها ردحاً من الزمن عندما كان ضابطاً في المخابرات الروسية والألمانية الشرقية ستازي؟
تداعيات حرب أوكرانيا بدأت تثير أسئلة في داخل روسيا، وهنا بيت القصيد، وربما الفخ الذي نصبه الغرب، وبخاصة المخابرات الأميركية لبوتين للتورط في حرب يصعب الخروج منها منتصراً!! جريدة “الوول ستريت جورنال” كتبت عن صراع يدور بين وزارة الدفاع الروسية المؤيدة للحرب ولبوتين، وجهاز المخابرات الذي يتحفظ على الغزو ويتخوف من توسع الحرب وتداعياتها، أولاً على الشعب الروسي ثم على العالم في ظل العقوبات القاسية جداً، بعد ارتفاع أسعار الغاز والنفط وتدني سعر الروبل وغلاء الأسعار.
وانتقاد بوتين لا يقتصر على الدوائر الرسمية الحاكمة، بل تحركت جمعيات حقوق الإنسان والمجتمع المدني الروسي من مثقفين وأكاديميين ومهنيين وإعلاميين، وبدأوا حملات تبرعات لضحايا أوكرانيا وتنظيم تظاهرات احتجاج على الحرب تعارض سياسة بوتين. هذه الفئة الشابة المتنورة من الروس الذين لا تتجاوز أعمارهم الأربعين سنة لا تعرف ولم تعش فترة الاتحاد السوفياتي. ربما قرأت عنها في الكتب وسرديات الأهل والجيران. أن تقوم تظاهرات في أكثر من أربعين مدينة تندد بالغزو وتطالب بدولة حديثة ومجتمع مزدهر، وتجمع التبرعات لمنكوبي أوكرانيا علناً، تطور لم تشهده موسكو ولا بطرسبرغ سابقاً.
لا أوهام في أن احتجاجات الشارع الروسي تبقى محدودة التأثير ولا تسقط بوتين وهو المهيمن على البرلمان والإعلام والجيش. لكن إذا طالت الحرب لأشهر عدة، وبدأت جثث القوات المسلحة تصل الى روسيا، وأخبار تعثر الجيش في التقدم وصد المقاومة الأوكرانية غير المتوقعة في حسابات بوتين سيكون لكل حادث حديث.
بعد شهر من المعارك، تبين أن أوكرانيا ليست الشيشان ولا سوريا لتمطر بالصواريخ وتتحول حقل تجارب للأسلحة الجديدة. لمصلحة من يجري التهديم الممنهج للمدن والمطارات والمنشآت العسكرية والإنسانية؟ بعد شهر من القتال لم تسقط ماريوبول رغم أن تسعين في المئة من بناياتها سُوّيت بالأرض، وسكانها يقاومون ويرفضون الخروج في الممرات الإنسانية الى روسيا وبيلاروسيا. ثمة أسئلة تطرح عن حقيقة شعور الجندي الروسي الذي يقاتل أخاه غير الشقيق وإبن عمه أو خالته في أوكرانيا، نظراً الى العلاقات العائلية التي تربط الشعبين والعيش المشترك لمئات السنين. لمصلحة من معالم أوكرانية جميلة تُهدم، وبلاد واسعة شاسعة تتقسم؟
دخول الحرب شهرها الثاني وعدم بروز تقدم في المفاوضات الروسية الأوكرانية ينذران بأن المعارك ستطول، خصوصاً أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية لن تبخل بتزويد أوكرانيا بالسلاح والذخيرة الأشد تطوراً لمجابهة القوات الروسية. رئيس أوكرانيا زيلينسكي يصر على الجلوس مع بوتين والتفاوض معه شخصياً لبحث مطالب روسيا من أوكرانيا. لهجته حملت مرونة وفيها عبارات التسامح والغفران لأخطاء ربما ارتُكبت من جميع الأطراف في هذه الحرب.
أوكرانيا أساءت بعدم تقدير غضب روسيا وقدرتها على إيذائها وتحجيمها بمغازلة الغرب والانتقال إلى نسخ أجوائه ومعتقداته. روسيا أيضاً أخطأت في التوقعات عندما اعتقدت أن اجتياح أوكرانيا قضية ساعات وتستسلم كييف للقوة. المفاجئ أن الأوكرانيين اصطفوا وراء حكومتهم الصامدة، وقادوا مقاومة شعبية أربكت الجيش الروسي إرباكاً غير منتظم.
بوتين في عنجهيته واعتزازه الكبير بنفسه وببلده اعتمد على رهانات خاطئة، عندما اكتشف تماسك الغرب القوي ووقوفه صفاً واحداً، أميركيين وأوروبيين، لصد الهجوم على أوكرانيا. لأيام قبل اندلاع الحرب، اعتقد بوتين خطأً أن أوروبا، بما لها من علاقات تجارية ونفطية وغازية مع روسيا، لن تتوحد مع أميركا ولن تجرؤ على مواجهة روسيا بالكامل. سوء حسابات بوتين والأجهزة التي يعتمد عليها، والتي ربما أسمعته ما يريد سماعه لا الواقع، أدى إلى تخبط وإرباكات لم تكن متوقعة عند الروس.
ردود الفعل الأميركية والأوروبية على الاجتياح والاستعداد الكلي لدعم حلف الناتو وتطويره وتجديده، وتبني سياسات دفاعية غربية لجميع دول الناتو والاتحاد الأوروبي لمجابهة روسيا ومخططات بوتين حاضراً ومستقبلاً لعزل روسيا، وفرض عقوبات قاسية جداً وغير مسبوقة عليها، ستمنع مع الوقت بوتين من التهور والمغامرة في حروب جديدة.
يبقى السؤال: هل وقع بوتين في الفخ الذي نصبه له الغرب؟ إذ يستحيل عليه أن يستمر في حرب في ظل العقوبات التي حرمت روسيا من استثمارات بقيمة 800 مليار دولار. فهل تتحول أوكرانيا إلى أفغانستان جديدة تؤدي إلى انسحاب القوات الروسية، وما هو الثمن الذي سيدفعه بوتين إذا خسر الحرب؟ الخسارة ستكون على أوكرانيا المهدمة وروسيا.

شاهد أيضاً

الخطوط الخلفية في الحرب على غزة

بقلم: جمال الكشكي – صحيفة الشرق الأوسط الشرق اليوم– في تاريخ الحروب كثيراً ما تنشط …