الرئيسية / مقالات رأي / مباحثات الطاولة الطويلة

مباحثات الطاولة الطويلة

بقلم: نبيل سالم – صحيفة “الخليج”

الشرق اليوم – يقدم البروتوكول الدبلوماسي مجموعة من القواعد التي تحدد السلوك المتعارف عليه في الشؤون الدبلوماسية الدولية، مثل تقديم الاحترام لرؤساء الدول والضيوف، ومراعاة الترتيب الهرمي للحضور، أو مراعاة عامل السن وغيره من الاعتبارات التي ترتب علاقات الدول مع بعضها بعضاً.

وقد تنبئ بعض الشكليات المتبعة في البروتوكولات الدبلوماسية خلال المباحثات التي تتم بين قادة الدول، بطبيعة هذه المباحثات والأجواء التي تجري فيها، مقدمة تفسيرات وتكهنات أكثر مما تقدمه السطور والتصريحات الصحفية أحياناً، فالحفاوة التي يستقبل بها الضيف، وطريقة الاستقبال، وحتى مستوى الحضور في المباحثات بين الدول يعطينا فكرة عن مدى أهميتها، وعن نجاحها من عدمه أحياناً.

ومن تابع زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى موسكو مؤخراً، لا بد أنه لاحظ تلك الطاولة الطويلة التي اختارها سيد الكرملين في مباحثاته مع نظيره الفرنسي، ففي موقف يحمل دلالة رمزية كبيرة أجلس بوتين  الذي لا يخفي تناقضه الكبير مع الغرب، ورجل الـ«كي جي بي» المعروف  ضيفه الفرنسي على رأس طاولة طويلة جداً، بينما جلس هو على الطرف البعيد الآخر في لقطة تداولتها وسائل الإعلام بسخرية، وتحدثت من خلالها عن الرسالة التي أراد إيصالها سيد الكرملين المعروف بمعارضته لانهيار الاتحاد السوفييتي السابق لأوروبا. 

ففي هذه الصورة التي اختارها بوتين بعناية، على ما يبدو، حاول إيصال رسالة تشير إلى المسافة البعيدة التي تفصل بين الطرفين وحجم الهوة بين الغرب وروسيا في الكثير من الملفات الخلافية، وعلى رأسها ملف أوكرانيا الساخن، في ظل رفض الغرب إلغاء رسمياً لقراره بفتح باب الانضمام أمام جورجيا وأوكرانيا.

وكما يقول المثل، فإن المكتوب قد يفهم من عنوانه، حيث تشير كل التحليلات إلى فشل المباحثات بين الطرفين، أما مرد هذا الفشل فهو التجاهل الواضح من قبل الغرب لمطالب روسيا، وإصراره على التحرش بها عسكرياً وحصارها اقتصادياً، حيث بدا غضب بوتين واضحاً؛ لأن ما يريده «الناتو» بالتوسع شرقاً وضم أوكرانيا إلى صفوفه، سيفرض على روسيا تقديم تنازلات مؤلمة على حساب نفوذها الجيوسياسي وأمنها الوطني.

صحيح أن روسيا كغيرها من الدول الكبرى، ليست مستعدة في ظل الأوضاع الاقتصادية التي خلفتها جائحة كورونا لخوض حروب جديدة، وتداعياتها الاقتصادية على العالم، لكنها ليست مستعدة على ما يبدو  للتفريط في مصالحها الأمنية والاقتصادية، كما أن اصطفاف الصين خلف موسكو في رفضها لتوسع حلف شمال الأطلسي شرقاً، قد يزيد من تعقيد الموقف على الرغم من رغبة كل الأطراف في تلافي صراع دموي مسلح، ما يعني أن النظام العالمي يعيش حالياً أزمة حقيقية، تضاف إلى الأزمات الاقتصادية الكبيرة، خاصة في ظل التخوف الكبير الذي يحمله بوتين على مستقبل روسيا، والذي اعتبر بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق أن هذا الانهيار بمثابة نهاية «روسيا التاريخية»، وأنه شكّل مأساة «بالنسبة لأغلبية المواطنين».

وبحسب ما نقلته وكالة «تاس» الروسية للأنباء عن بوتين بعد تفكك يوغسلافيا، فإن عواقب «انهيار روسيا» قد تكون أكثر حدة مما كانت عليه في يوغوسلافيا السابقة، وإن المواجهات ستكون أكثر شدة ودموية مما كانت عليه بعد انهيار يوغوسلافيا، واصفاً انهيار الاتحاد السوفييتي السابق بأنه «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين».

في ظل ما تقدم تظهر الأسباب الواقعية لفشل مباحثات بوتين وماكرون في موسكو، ويبدو مبرراً أيضاً ذلك التخوف الكبير الذي يبديه الرئيس الروسي على أمن ومستقبل بلاده، وهو تخوف يبدو أن الغرب لم يتفهمه أو لا يريد أن يتفهمه بعد، في ظل ما يمتلكه من إمكانات عسكرية هائلة، قد تدفع به إلى غطرسة القوة، والانزلاق نحو المواجهة.

شاهد أيضاً

انتهى الصّراع بين المسيحيّين فهل ينتهي الصّراع الدّيني كله؟

بقلم: حسن إسميك- النهار العربيالشرق اليوم– “الحرب أمرٌ لا تخلو منه أمةٌ ولا جيل” وقد …