الرئيسية / مقالات رأي / أسلحة صامتة لحروب هادئة

أسلحة صامتة لحروب هادئة

بقلم: عبدالله السيد الهاشمي – صحيفة “الاتحاد”

الشرق اليوم – لا يمكن المقاربة السياسية والعسكرية بين الأزمة الروسية – الأوكرانية – الغربية وبين «عملية خليج الخنازير» التي انتهت إلى تفاهم محتم بعد فشل الأميركان في غزو كوبا عن طريق دعم المعارضة الكوبية ضد النظام الشيوعي الجديد في كوبا بزعامة كاسترو عام 1960، ولكن التاريخ قدم نموذجاً آخر يتطابق إلى حد بعيد مع الحالة التي تتصاعد اليوم في قلب العالم من منظور الجيوبولتيك، حسب ماكندر، والذي يتمثل في العمليات التي جرت قبل وخلال وبعد الاحتلال الألماني لتشيكوسلوفاكيا عام 1938 مع تبدل اللاعبين الأساسيين.

المقاربة مع خليج الخنازير مفرطة في التشاؤم من جهة، ومفرطة في التفاؤل من جهة أخرى، حيث لا يمكن التنبؤ عسكرياً بالفشل المبكر لغزو روسيا لأوكرانيا، فالحقائق والأرقام والاستعداد العسكري الروسي الحالي من حشود عسكرية على الحدود الأوكرانية والمناورات في بيلاروسيا ونصب بطاريات الدفاع الجوي الروسية إس 400 وكذلك الاستعداد التقني والسيبراني تشي كلها بإمكانية كبيرة أن يتحول التصعيد والتلميح والتلويح السياسي إلى معركة بين عشية وضحاها، فتصبح المراهنة على فشل كل من الأوكرانيين الشرقيين والنسيج الشعبي الأوكراني الذي تمتد جذوره التاريخية والاجتماعية مع روسيا ليست لها أهمية عسكرية، مهما بدت أهمية تلك المراهنات من الناحية السياسية.

كثير من المحللين السياسيين يذهبون نحو تفسير الأزمة الأوكرانية بأنها بدأت يوم عزل الأوكرانيون رئيسهم الموالي لروسيا عام 2014، فضمت روسيا شبه جزيرة القرم الجنوبية، وحينها تزايدت الدعوات لضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأن روسيا تريد من الغرب التعهد بعدم ضم أوكرانيا إلى الحلف الناتو، وأن يعود الناتو إلى حدود ما قبل عام 1997 وإنهاء النشاط العسكري لحلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية، بعدم نشر صواريخ في بولندا ورومانيا، وما يدلل على سحب القوات العسكرية القتالية من جمهوريات البلطيق وبولندا وليتوانيا وإستونيا ولاتفيا، كذلك تفعيل وتنفيذ اتفاق مينسك للسلام لعام 2015 لوقف الصراع في أوكرانيا وإجراء انتخابات في مناطقها الشرقية.

ويذهب أيضاً بعض المحللين العسكريين والاقتصاديين إلى مناقشة قضية الغاز الروسي وإمداداته إلى أوروبا ومحاولة الروس التحكم بسوق الطاقة، وبالتالي التحكم بالاقتصاد الأوروبي خاصة في ظل مشروع «نورد ستريم 2» وهو خط أنابيب بحر البلطيق الذي سيضاعف حجم تصدير الغاز من روسيا إلى ألمانيا، إلى ما يقرب 110 مليارات متر مكعب سنويا في حال تشغيله بطاقته الكاملة، ولكن حرب الطاقة هذه ليست جديدة، إنما عميقة ولا تتوقف عند تحقيق مصالح الأطراف سياسياً وعسكرياً.

وجهة نظري أن الأزمة ليست جديدة بل تعود إلى العام 1945، حين كان التخطيط يجري على قدم وساق، لما كشف عنه المفكر الأميركي ناعوم تشومسكي بورقة العمل المقدمة عام 1986 بعنوان «استراتيجيات التحكم في البشر والسيطرة على الجمهور»، وتحدث فيها عن وثيقة سرية حول وجود مؤامرة تدعى «أسلحة صامتة لحروب هادئة» تدعو إلى السيطرة على الجماهير والتلاعب بالصناعة وتسلية الناس وتعيد تشكيل الهندسة الاجتماعية من خلال فرض رقابة التقنية وهدم القيم الاجتماعية والأخلاقية والثقافية، وقد تطورت تكنولوجيا الأسلحة الصامتة، حسب تشومسكي، من بحوث العمليات الاستراتيجية المنهجية التكتيكية في ظل الإدارة العسكرية في إنجلترا خلال الحرب العالمية الثانية، وانضم إليها الجيش الأميركي عام 1952، بهدف الاستخدام المحدود للموارد العسكرية ضد الأعداء الأجانب للسيطرة الكاملة على تلك المجتمعات، وبدا أن ذلك يهدد الوجود الروسي والصيني، ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، بدا التهديد مضاعفاً، كما نقرأ في تلميحات تصريحات وتلميحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في معظم الأحيان.

إذا أصابت هذه النظرية، بأن العقول الروسية ما زالت تشعر بالتهديد الشديد من الأسلحة الصامتة في حروب الغرب الهادئة، والغزو الفكري والثقافي والاجتماعي الغربي لشرق الكرة الأرضية، فإن الاقتراب الغربي الجغرافي والعسكري والسياسي والاجتماعي من الحدود الروسية، سيجعلها تنتفض، ولن تنجح مشاريع السلام قبل تسوية الصراع الفكري والثقافي وبما يضمن لروسيا حماية إرثها القومي والإنساني وقيمها الاجتماعية، وإلا فإن أية مفاوضات ستؤدي إلى طرق مسدودة، وسيكثر التحليل العسكري والسياسي، الذي يناقش القشور ولن يصل العمق أبداً.

شاهد أيضاً

“وستڤاليا” معاهدة أنهت الحروب الدينيّة، ولكن..

بقلم: حسن إسميك- النهار العربيالشرق اليوم– بدأتُ هذه السلسلة تحت عنوان عريض هو “هل تجاوزت …