الرئيسية / مقالات رأي / استحقاقات الدولة التونسية

استحقاقات الدولة التونسية

بقلم: أسامة رمضاني  – النهار العربي

الشرق اليوم- لا يمكنك هذه الأيام أن تلوم الطبقة السياسية في تونس إن هي انشغلت عن العالم بأحوالها وأحوال البلاد. ولكن مناخ التوتر السياسي السائد يطرح جملة من التساؤلات حول قدرة البلاد على كسر الحلقة المفرغة من الأزمات التي تعيق تقدمها في مسار الانتقال السياسي والإصلاح الاقتصادي.

يرتبط التوتر المخيم على المزاج العام بالأحداث والتطورات المثيرة للانشغال وما ينتج منها من ردود أفعال وأخرى معاكسة تجمّد النقاش السياسي إن كان بالفعل نقاشاً.

إضافة إلى الوقائع التي يقارب بعضها الخيال، ترسم الاتهامات المتبادلة والإشاعات والتسريبات عبر المنصات الإلكترونية ملامح عالم افتراضي خانق يشبه الميتافيرس الذي يبشر به مارك زوكربرغ ولكنه ميتافيرس كئيب ومخيف.

من جملة القصص المثيرة والكثيرة التي تغذي التوتر وتتغذى منه، كلام عن احتمال تعرض الرئيس السابق الباجي قايد السبسي، وهو في سن فوق التسعين، إلى عملية تسميم سرّعت بموته. تحوّلت الإشاعات القديمة حول الموضوع من عملية تصفية حسابات بين مختلف أجيال الحكم المتصارعة إلى قضية دولة، بعد أن أعلنت السلطات عن فتح تحقيق في الموضوع. بل إن أحد محامي الرئيس الراحل تحدث عن احتمال إخراج جثمان هذا الأخير من قبره وتشريحه لمعرفة الخبر اليقين.

الكلام عن الاشتباه في اغتيال الرئيس السابق يضفي على الجو العام مسحة إضافية من السوداوية وتلميحاً إلى قدرة الطبقة السياسية على العنف المادي.

لا يمكن الزعم في أن الإشارة إلى مثل هذا الاحتمال، مهما كان رصيده من الصحة على أرض الواقع، يحيل الأمر إلى ظاهرة غريبة عن تونس، إذ إن البلاد لم تنجُ من مسلسل الاغتيالات السياسية خلال العشرية الماضية. وهي إن استطاعت، إثر مقتل الزعيمين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي عام 2013 الابتعاد عن شفا الحرب الأهلية، فهي لم تخرج أبداً طيلة العقد الماضي من بوتقة الصراعات والخلافات.

قصص واتهامات وشبهات خطيرة عن التورط في الإرهاب والرشوة والفساد ومظاهر خرق القانون بأنواعه تحوم حول كثيرين. وقد أصبح الشك والريبة المطلقة هو العملة المتبادلة بين عديد الأطراف وصار اللجوء إلى القضاء مآل الكثير من الخلافات. وأضحت المواقف المتشنجة في حد ذاتها جزءاً من الأزمة السياسية الداخلية وعاملاً من عوامل استمرارها. فهي تقطع الجسور بين مكونات الطبقة السياسية والمدنية وتجعل من مبدأ الحوار نفسه نقطة خلافية بين الفرقاء. ولكن الأهم من ذلك ربما هو أن الأجواء الحالية تمنع الاهتمام الهادئ والرصين بالشأن العام بوجهيه الداخلي والخارجي، في وقت تحتاج تونس إلى الكثير من العقلانية وحصافة الرأي لتجاوز العقبات الراهنة والمتوقعة.

على الصعيد الداخلي، من المستبعد جداً أن يسمح مناخ المواجهة والشحن المتبادل لأصحاب القرار ومكوّنات النخبة السياسية، مهما اجتهدوا أو تظاهروا بالحكمة، أن يتقدموا بخطوات ثابتة نحو الخروج من الأزمة في المستقبل القريب. وهم، على وجه التحديد، لن يستطيعوا الاستعداد، في ظروف ملائمة، من الاستحقاقات المحورية التي تنتظر البلاد، وهي تشمل تنظيم انتخابات برلمانية سابقة لأوانها إضافة الى استفتاء شعبي حول نص دستور وقانون انتخابي (سواء كانا في صيغة جديدة أو منقحة) لا بد أن يسبق الاقتراع إن شاءت الأقدار أن ينظم. فضلاً عن البدء في تنفيذ إصلاحات اقتصادية واجتماعية مؤلمة. الآجال الضاغطة لا ترحم، إذ من المفروض أن تتم الاستحقاقات كلها قبل انقضاء هذه السنة.

إذا كان الهدف من وراء هذه الاستحقاقات هو الخروج من عنق الزجاجة، فإن تفاقم التوترات، مهما كانت الآجال المطروحة، قد يحوّل الحلول المقترحة إلى جزء من المشكل.

كذلك فإن العالم، بدوائره القريبة والبعيدة من تونس، في تغيّر دائم، ولن ينتظر أن تفرغ البلاد من هاجسها الداخلي حتى تتنبه إلى الفرص السانحة والمخاطر المحدقة في الأفق. لن تنتظر الأحداث الخارجية أن تهدأ أعصاب التونسيين وأن تتضح رؤيتهم لما يجري حولهم. فالمرء لا يلاحظ في تونس، على سبيل المثال، شيئاً من الحوار الذي قد تلاحظه في بلدان المغرب العربي الأخرى حول ما تعنيه لهذه البلدان رئاسة فرنسا للمجموعة الأوروبية بداية من مطلع كانون الثاني (يناير) الجاري من انعكاسات، أو ما قد ينتج من الانتخابات التي تواجهها فرنسا في الربيع المقبل من تبعات على شركائها العرب وبالتالي من انعكاسات على مصالح تونس ومصالح جالياتها هناك. وقد تجلت بعض ملامح هذه الانعكاسات من خلال التحريض على المهاجرين القادمين من بلدان المغرب العربي وأفريقيا من قبل مرشحي أقصى اليمين وحتى من قبل مرشحي اليمين التقليدي.

كذلك، ليس هناك ما يؤشر إلى جهد مبذول من الفاعلين السياسيين في تونس لاستشراف المستقبل في ليبيا بخاصة بعد فشل الفرقاء هناك في تذليل الخلافات في ما بينهم. وهي خلافات أعاقت تنظيم الانتخابات الرئاسية والتقدم نحو التسوية السياسية الشاملة في ليبيا. مثل هذا الاستشراف ليس ترفاً بالنسبة إلى تونس المرتبطة مصالحها الأمنية والاقتصادية والسياسية تمام الارتباط بالأوضاع في البلد المجاور.

لتونس التزامات دولية سابقة. وفي ظل التجاذبات الداخلية، ليس مؤكداً أنه سوف يبقى للنخبة السياسية ما يكفي من التركيز حول القمة الفرنكوفونية والقمة اليابانية – الأفريقية حول التنمية (تيكاد 8) المقرر انعقادهما هذه السنة في تونس.

تنفي السلطات في تونس أن تكون التفاعلات الناجمة عن الإجراءات الاستثنائية الجاري بها العمل منذ تموز (يوليو) الماضي قد شوشت على استعدادها للأحداث أو هي أثارت ردود فعل سلبية في الخارج تعيق تعاونها مع الآخرين. من الممكن للسلطة أن تقول إنه رغم وجود تحفظات في الغرب على المسار السياسي التونسي فإنه ليست هناك معارضة نشطة له. ولكن المشكل هو أن تونس، المشغولة بانتقالها الديموقراطي المتعثر وتعاملها مع مختلف الأطراف مع هذا المسار، لا يمكنها المساهمة كما في السابق وبالنجاعة نفسها في حل المشاكل الإقليمية والدولية، وذلك على الأقل إلى حين أن تهدأ الأوضاع في الداخل وتنتهي حالة الاستقطاب التي تشل الطموحات والعزائم.

تبقى للدولة في أي مكان استحقاقات داخلية وخارجية حتى وإن بدا وكأن الخلافات السياسية وسائر التوترات الناجمة عنها لا تترك مجالاً للتقدم ولو خطوة واحدة على طريق حل الأزمات الداخلية ومواصلة لعب دور بنّاء في الخارج.

والدولة التونسية ليست استثناءً. ومن العبث أن يعتقد الفرقاء السياسيون أن مشاحناتهم التي لا تنتهي على قدر أكبر من الأهمية من استحقاقات الدولة وأولويات الاستقرار السياسي والإنعاش الاقتصادي.

شاهد أيضاً

إنصاف «الأونروا»

بقلم: وليد عثمان – صحيفة الخليج الشرق اليوم- لم تكن براءة وكالة الأمم المتحدة لغوث …