الرئيسية / مقالات رأي / الحرية في مدار ليبرالي

الحرية في مدار ليبرالي

بقلم: عبد الإله بلقزيز – سكاي نيوز

الشرق اليوم- لمفهوم الحريّة في الفكر اللّيبراليّ أصول اجتماعيّة نَبَت فيها، ومنها انتقل ليصير واحداً من المفاهيم الكبرى المؤسِّسة للفلسفة السّياسيّة الحديثة، وللفكر الحديث إجمالاً.

والأصول هذه اقتصاديّة، في المقام الأوّل، وتعود إلى النّصف الثّاني من القرن السّابع عشر؛ أَيَّان كانتِ الطّبقة البرجوازيّة الثّوريّة الصّاعدة تخوض صراعها العنيد لتفرض نفسها ونظامَ إنتاجها في المراكز الأوروبيّة الكبرى، ضدّ بقايا الإقطاع والمَلَكيّات المطلقة – المدعومة من الكنيسة -؛ وحيث كانت الحريّة: حريّة مبادرتها، من آكَدِ مطالبها وأهدافها في ذلك الصّراع.

بدأ المطلب يعبّر عن نفسه، ابتداءً، قبل قرنٍ من ذلك التّاريخ: حريّة التّجارة وانتقال السّلع ثمّ، مع بداية توسُّع النّشاط الرّأسمالي وميلاد المانيفاكتورات، حريّة الاستثمار وانتقال رأس المال. وقد لخّصه، عموماً، المبدأ البرجوازيّ الرّئيس: حريّة التّملّك والحقّ في حيازة المُلكيّة الخاصّة. ولم تكنِ الفلسفة بعيدة عن هذه الأجواء من الدّفاع عن الحريّة في وجه النُّظم الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة التي كانت تكبحها في ذلك الإبّان.

وإذا ما استثنينا مؤسّس هذه الفلسفة، توماس هوبس، الذي كان منهاضاً  للمُلكيّة الخاصّة، ومدافعاً عن النّظام الملكيّ المطلق،  فإنّ من أتـوا بعده بقليلٍ من الفلاسفة – خاصّة جون لوك وباروخ دو سپينوزا- كرّسوا مسألة الحريّة، في قلب مسائل الفلسفة الحديثة، كمسألةٍ رئيسٍ على محورها تدور المسائل الأخرى (التّوافق، القانون، السّيادة، التّمثيل… والعَقد الاجتماعيّ). بل إنّهما – وخاصّةً لوك- ذهبا إلى بناء تصوُّرٍ للدّولة بوصفها ذلك الجسم السّياسيّ الذي تَوَافَق على إقامته النّاس من أجل حماية حقّيْن رئيسيْن: الحريّة والمُلكيّة الخاصّة.

منذ وُضِعَت هذه الأساسات الفلسفيّة لمفهوم الحريّة، بات المفهوم هذا عُدّة الاشتغال الرّئيس للفكر اللّيبراليّ حتّى أن اسم التّيار الفكريّ هذا اشْتُقّ من المفهوم نفسِه الذي اقترن به اقترانَ ماهية. وإذا ما رمْنا تلخيص نظرة اللّيبراليّة إلى الحريّة، ألفيْنا أنّها دائرةٌ على مستوييْن من البناء الاجتماعيّ: اقتصاديّ وسياسيّ:

تعني الحريّة، في المعتقَد الاقتصاديّ اللّيبراليّ، رفْعَ القيود والحواجز عن عمليّة الإنتاج. التّسليمُ، ابتداءً، بحريّة الأفراد في المبادرة الاقتصاديّة وعدم تقييدهم بأيّ قوانين- باسم الدّولة والمجتمع – غير تلك التي   يُسَلَّم بأنّها مشروعة (مثل الضّرائب على الأرباح)، فضلاً عن عدم مزاحمة الدّولة لهم في ميدان الإنتاج؛ ثمّ التّسليم بالحقّ في المُلكيّة الخاصّة، ووجوب إقامة النّظام الاقتصاديّ عليها. تلك هي أركان المعتقد اللّيبراليّ الاقتصاديّ. لكنّ اللّيبراليّة لا تلتفت إلى اجتماعيّات موقفها هذا؛ فحين يقوم النّظام الاقتصاديّ على حريّة التّملُّك والمبادرة الخاصّة، لن يسَع المجتمع أن يستفيد من الثّروة بوصفها – مثل السّلطة – حقّاً عامّاً؛ لأنّ المستفيد الوحيد هو من يملك ومَن يحتاز القوّةَ الاقتصاديّة الماليّة، وهؤلاء قلّة في المجتمع. لذلك ظلّ مفهومها للحريّة، في الميدان الاقتصاديّ، عرضةَ للنّقد الحادّ من خصومها الفكريّين والسّياسيّين (من الماركسيّة مثلاً)؛ وهو عينُه النّقد الذي نبّهها- في حقبتها الكينزيّة – إلى أخطائها، وإلى تجاهلها الأبعاد الاجتماعيّة في التّنميّة الرّأسماليّة، فقادها إلى عمليّة تصحيح أسفرت عن ميلاد نموذج جديد للدّولة هو نموذج دولة الرّعاية الاجتماعيّة، قبل أن يُعيد الانقلابَ عليه صعودُ اللّيبراليّة المتوحّشة في ثمانينيّات القرن الماضي وما تلاها.

أمّا الحريّة، في المعتقد السّياسيّ اللّيبراليّ، فتعني الأسَّ الأساس للحقوق المدنيّة والسّياسيّة الذي تتفرّع منه هذه. إنّها فيه جوهرُ المواطنة ومبدؤها الحاكم.

المواطن حرٌّ بالضّرورة، ومواطنته التي تخوِّل له حقّه في الحريّة تخوِّل له، بالتّبِعة، سائر الحقوق المدنيّة والسّياسيّة. إنْ ضربْنا صفحاً عن فرضيّةٍ قامت عليه ليبراليّة القرنين السّابع عشر والثّامن عشر، ومقتضاها أنّ الأفراد الأحرار هُم من تَوافقوا على إقامة المجتمع السّياسيّ (= الدّولة)، وأنّ الدّولة هذه ما قامت إلاّ لتضمن الحريّة والحقّ في التّملّك، فإنّ فلسفة القانون في القرن الـ 18 أقرّت المعادلة الصّحيحة لمتلازمة الحريّة/القانون قبل هيغل بثلثيْ قرن: الحريّة هي ما تشرّعه القوانين؛ أي هي ما يسلّم المجتمع – الذي يجسّد القانونُ إرادتَه – أنّها حقٌّ لكلّ فردٍ فيه. لذلك تكون الدّولةُ هي إطار الحريّة في عُرف الدّولة الوطنيّة وفلسفتها القانونيّة. غير أنّ هذه المعادلة لم تكن، دائماً، محطَّ رضاً وقبولٍ من اللّيبراليّة؛ لأنّها ظلّت تذكِّر الأخيرةَ بالدّولة، وبما ينطوي عليه كيانُها وسلطانُها من قيود.

في كلّ حالٍ، لا تلْحظ اللّيبراليّة من حريّات سوى حريّات الأفراد. وليس ذلك لأنّ القوانين تخاطِب الأفراد بأحكامها حصراً؛ بل لأنّ الدّولة، التي تضع تلك القوانين من خلال مؤسّسات التّشريع فيها، هي نفسُها كيانُ مجموعٍ اجتماعيّ (شعب، أمّة) لا كيانَ أفراد.

شاهد أيضاً

لبنان- إسرائيل: لا عودة الى ما قبل “طوفان الأقصى”

بقلم: علي حمادة- النهار العربيالشرق اليوم– تسربت معلومات دبلوماسية غربية الى مسؤولين لبنانيين كبار تشير …