الرئيسية / مقالات رأي / المصالح الجزائرية – الفرنسية لا تُؤالف بين القلوب

المصالح الجزائرية – الفرنسية لا تُؤالف بين القلوب

بقلم: صابر بليدي – العرب اللندنية

الشرق اليوم- ينقسم الرأي العام الجزائري إلى مواقف مختلفة بشأن العلاقة مع فرنسا، وإذ يرفض معارضون أي استقواء بالخارج بما فيهم باريس، في قضية التعاطي مع السلطة والوضع الداخلي بشكل عام، إلا أن ارتياح البعض منهم للتصريحات والمحتويات الإعلامية التي تنتقد السلطات الجزائرية يبدو جليا، بينما يتصاعد منسوب الكره لفرنسا لدى قطاع آخر إن لم يكن مناصرا للسلطة فهو يتقاطع معها في مفعول التاريخ والذاكرة الجماعية.

لم تستطع ستة عقود، منذ استقلال الجزائر عن فرنسا عام 1962، محو آثار قرن وثلث قرن من الاستعمار ومن الممارسات الوحشية المتراكمة، لتبقى مع ذلك علاقة الجزائريين بفرنسا علاقة مميزة، ولا يمكن قراءتها بمعزل عن الموروث التاريخي حتى لدى الأجيال الشابة.

وباستثناء غالبية النخب الحاكمة التي تظهر تناغما مع فرنسا ولو كان خلف الستار، فقد هرّب رموز ووجوه محسوبة على السلطة السابقة 50 مليار يورو تقريبا على مدار 15 عاما، بحسب كتاب صدر في باريس، فإن الجزائريين من مختلف التيارات يتقاسمون مواقف متقاربة في مسألة كراهية فرنسا، فالمعارضون يرون أن الإليزيه هو الذي يدعم السلطة “غير الشرعية” في البلاد، بينما معسكر السلطة يعتبر هؤلاء موالين لباريس ويعملون لصالح أجندة خارجية وفرنسية تحديدا، ولا يبقى إلا خيط رفيع يجمع هؤلاء.

وعكَس رفض النائب عن الجالية الجزائرية في فرنسا سمير سعابنة العرض الوزاري الذي قدم له في حكومة عبدالمجيد تبون الأولى حجم العلاقة الوثيقة لتلك النخب مع فرنسا كدولة نموذجية ومتحضرة وقوية، لأنه لم يتنازل عن جنسيته الفرنسية وفق مقتضيات دستور البلاد، مفضلا بذلك الجنسية المكتسبة على وزارة في البلد الأم.

ورغم مرور ستة عقود على فك القيد بين الطرفين، إلا أن البلدين لم يستطيعا إحداث القطيعة بين مرحلة ما بعد الاستقلال وما قبله، فعلى مدار تلك الحقبة ظل مجرد تصريح أو مقال في صحيفة أو تسجيل تلفزي يهز العلاقة التي وصلت في محطات كثيرة إلى حالة تناغم لافتة في ثمانينات القرن الماضي وخلال العشريتين الأخيرتين، لتتأكد بذلك الهشاشة التي فرضها الماضي على الحاضر والمستقبل.

وتبقى فرنسا لأسباب تاريخية وثقافية ولغوية قبلة مفضلة لدى الجزائريين، حيث يتواجد على أراضيها نحو ستة ملايين مهاجر في وضع عادي، وعشرات الآلاف من المهاجرين السريين، فضلا عن 50 ألفا طلبوا الحصول على جنسيتها خلال السنوات الأخيرة، لكن كل ذلك الثقل البشري لم يغير من معادلة العلاقة الوجدانية للجزائريين مع فرنسا حتى ولو كانوا في قلب الشانزلزيه.

والنص القانوني، الذي أعدته الداخلية الفرنسية منذ مدة حول حظر حمل الرايات غير الفرنسية في التظاهرات والاحتفالات الشعبية، واحد من تجليات العلاقة الوجدانية المعقدة. وذلك بعد أن أبدى الرئيس إيمانويل ماكرون انزعاجا شديدا من شبان جزائريين في فرنسا احتفلوا بانتصارات منتخب كرة القدم بالرايات الوطنية، ورددوا الأهازيج والأناشيد الموروثة عن الحرب الدعائية خلال ثورة التحرير.

لكن ذلك لا ينفي وجود تيار فرنكفوني، على قلته، فهو مهيكل بشكل عمودي بين مؤسسات ومفاصل الدولة، معروف بولائه لفرنسا ثقافة ولغة وأيديولوجية، وإن كان لا يجرؤ على الإقرار بأنه امتداد للطابور الخامس (الحركي)، لا يلبث أن يدافع عن المصالح الفرنسية في الجزائر، وفوق ذلك هو متعاطف مع “الإلهام الباريسي” و”حضارة الأنوار”، ولو أن نفوذه محدود في الأوساط الشعبية، وما يميز منصاته الإعلامية والمالية والإدارية هو العزلة الشعبية.

وتحيل الرواية التاريخية حول إعداد الجنرال شارل ديغول أحزمة بشرية مشحونة بالنزعة الفرنكفونية لزرعها في الجيش والإدارة والإعلام عندما همّت بلاده بمغادرة الجزائر في 1962 من أجل الإبقاء على الوصاية الفرنسية على الجزائر كمستعمرة قديمة، إلى هيمنة ذلك التيار على مفاصل الدولة بعد الاستقلال وعمله على تطهيرها من منتسبي جبهة وجيش التحرير.

استمرت الهيمنة الرسمية لكنها لم تغير مشاعر الجزائريين الموالين لثورتهم التحريرية ولتضحيات آبائهم وأجدادهم، ولذلك لم تحقق فرنسا التغيير المنشود في قلوب وعقول هؤلاء.

فرنسا راهنت على نخب عسكرية وإدارية وإعلامية وثقافية للإبقاء على هيمنتها ونفوذها، لكنها لم تفكر على ما يبدو في الوصول إلى قلوب الجزائريين خاصة الأجيال الشابة، فتلك النخب البيروقراطية المنبوذة من طرف الشارع لم تحقق التعاطف الشعبي حتى لنفسها فكيف توفق في تحقيقه لمن نَصّبَها، وفوق ذلك ساهمت في توسيع فجوة الحساسية حول أي عيد أو ذكرى تاريخية، لتتأجج معها مشاعر الكراهية معيدة للأذهان ممارسات فرنسا القديمة.

وأوجز مقطع من تصريح الرئيس تبون لمجلة دير شبيغل الألمانية حجم المشكلة التي تعاني منها فرنسا في ما يتصل بالجزائريين، فقال “لقد تصرف ماكرون بعقلية أجداده الاستعماريين”، وهي الذهنية المستمرة في فرنسا، حيث لم تستطع النخب الحاكمة المتعاقبة التخلص من إرث النظرة الاستعمارية والقطع مع المرحلة القديمة، فالرؤية التي يريد هؤلاء رسمها عادة ما تنطلق من ذلك الماضي الذي يحتاج إلى خطوات جريئة وقوية، من أجل إرساء علاقات وجدانية ومواقف جديدة قائمة على الندية والقيم الإنسانية.

العلاقات الجزائرية – الفرنسية هي نموذج لعلاقات نادرة في العالم الحديث، فإذا كانت المصالح المشتركة هي عنوان العلاقات الثنائية والإقليمية والدولية، فإن العلاقات المذكورة تبقى رهينة المشاعر الجمعية وتنقسم بين ولاء وتنافر وجداني يمتد بين الأجيال وعبر العقود المتعاقبة، فلا النخب الفرنسية الحاكمة تخلصت من النزعة الماضية، ولا الأجيال الجزائرية أشبعت حاجتها النفسية لتجاوز ما تعرض له الآباء والأجداد.


شاهد أيضاً

إيران وإسرائيل… الحرب والحديث المرجّم

بقلم عبد الله العتيبي – صحيفة الشرق الأوسط الشرق اليوم- ضعف أميركا – سياسياً لا …