الرئيسية / مقالات رأي / القاهرة لن تتخلى عن صخبها

القاهرة لن تتخلى عن صخبها

بقلم: محمد أبو الفضل – العرب اللندنية

الشرق اليوم- يعتقد من يتابعون المعلومات المتداولة حول قرب انتقال إدارة الحكم في مصر إلى العاصمة الإدارية قبل نهاية العام الجاري، أن القاهرة ستفقد جزءا كبيرا من صخبها المعتاد، وهو اعتقاد غير دقيق، لأن عملية الانتقال تقتصر على حفنة من المؤسسات والوزراء وكبار المسؤولين والموظفين، بينما تظل القاهرة عامرة بناسها وأهلها ومن تأقلموا مع ضجيجها وأدمنوه وربما وجدوا فيه مزايا يفتقدونها في عواصم عدة.

ظل صديق فلسطيني يردد أنه يزور مصر باستمرار للاستمتاع بالسهر على المقاهي في ليالي وسط البلد بالقاهرة، وحزن عندما علم بتشييد العاصمة الإدارية والتجهيز لافتتاحها قريبا، وتصور أن نقل إدارة الحكم يفقده أهم عنصر جذب دفعه دوما لزيارة القاهرة منذ سنوات، وأن الزحام الذي يتلذذ به واعتاد عليه في كثير من شوارعها سوف يتراجع ما جعله يفكر في الامتناع عن حرصه على زيارة القاهرة.

يضج البعض من سكان العاصمة المصرية من كثافة الزحام والضوضاء والجلوس على المقاهي حتى الساعات الأولى من الصباح، بينما تجد شريحة من الأشقاء العرب في كل ذلك وسائل جذب نادرة، وهي شريحة بات يزعجها انتقال مؤسسات الحكم من القاهرة القديمة، على اعتبار أن مركز الصخب وجوهره يمكن أن يصاب بالسكتة الدماغية، وقد يستغرق تبلور ملامحه في العاصمة الإدارية العشرات من السنين.

احتاجت القاهرة إلى وقت طويل لتظهر بالصورة الصاخبة التي تبغضها غالبية سكانها ويدمنها سكان ما يعرف بـ”مدن الصمت العربية”، وهي المدن التي تستيقظ في توقيتات معينة وتنام كذلك، فمن يشاهدون بعض الأفلام المصرية حتى أواخر الستينات من القرن الماضي وأفلام هذه الأيام، ويقارنون بين شوارع القاهرة زمان والآن، يتساءلون كيف وصلت هذه المدينة الكبيرة إلى حافة الهاوية بسبب كثرة الزحام؟

حزن الصديق الفلسطيني لأن مركز الثقل الإداري سينتقل إلى العاصمة الإدارية التي سوف يستيقظ سكانها بحساب وينامون كذلك، أي مدينة منزوعة الدسم الشعبي والعشوائية، كما أن وسط القاهرة يخشى أن يفقد بريقه تدريجيا لأن نسبة كبيرة ممن يمنحونه طعما للسهر في لياليه قد يذهبون بعيدا عنه.

طمأنت الصديق على شغفه بالصخب ونواميسه، وقلت له إن الحكومة المصرية خططت لتكون العاصمة الإدارية مدينة حضارية خالية من الزحام وتتناسب الحياة فيها مع معايير النظافة والبيئة الصحية وقامت بتدريب مجموعات كبيرة من الموظفين المرشحين للانتقال إليها ولن تتخلى عن الميزة التي جعلته وغيره يغرمون بها، لأن النخبة التي تدير الحكم من العاصمة الإدارية ومن يعاونونها لهم أماكنهم الهادئة.

قد يكون الرجل ارتاح للإجابة الخاصة بأن القاهرة القديمة لن تكف عن السهر، الذي يجعله يواظب على زيارتها، لكن لم يكن مطمئنا إلى أن العاصمة الإدارية سوف تحافظ على أناقتها وقدرتها على حماية الحيوية الرقمية التي تريد الحكومة أن تكون شعارا لها.

يبدو هذا الشعور قاسما مشتركا بين عموم المصريين الذين يتابعون أنباء انتقال مؤسسات الدولة إلى العاصمة الإدارية قريبا، ويخشون أن تتم الخطوة دون استعدادات كاملة، أو لمجرد تحقيق هدف دعائي يتناسب مع شعار الجمهورية الجديدة الذي رفعته وسائل الإعلام المصرية، إذ أعلن أكثر من مرة عن قرب الانتقال إليها وتم التأجيل بلا تقديم مبررات، بما يشي بوجود عقبات أو أن الانتقال لم تكتمل أركانه الرئيسية.

جاء الإعلان الأخير بممارسة الحكومة مهامها الجديدة قبل نهاية العام مصحوبا بإشارات تفيد بعدم جاهزية المدينة لاستقبال كل مؤسسات الحكم، ما جعل البعض يخشون أن يكون هناك استعجال أو عراقيل لا تؤدي للحصول على النتيجة المطلوبة، فالخطوة تمثل قفزة كبيرة، وما لم تكن تمثل إضافة مادية ومعنوية للنظام الحاكم قد تخصم من مؤسساته التي يمكن أن تنتقل ومعها بيروقراطيتها العتيدة.

ليس كل البيروقراطية تحمل شرورا للدولة، لكن المشكلة أن التمسك بها حرفيا يفقد العاصمة الإدارية رونقها الحضاري وبريقها السياسي، فعدم تأهيل البشر قبل الحجر أو بالتوازي ينقل أمراض القاهرة القديمة المزمنة إليها، وما تنطوي عليه من معوقات تسببت في خلق صورة سلبية عن عاصمة الدولة المصرية.

عندما أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسي عن مشروع العاصمة كان يريد الإيحاء بأن هناك دولة عصرية تولد في مصر، وهو ما ظهرت معالمه بوضوح مع شعار أو صك الجمهورية الجديدة الذي بدأ يتردد في أركان المحروسة مؤخرا، متوافقا مع تزايد الحديث عن قرب تنفيذ عملية انتقال إدارة الحكم إلى مقر العاصمة الإدارية في شرق القاهرة، وما تحمله الخطوة من تجليات في مناح مختلفة للحياة.

تريد الحكومة أن تتخلى العاصمة الجديدة عن العادات السيئة التي ترسخت في القاهرة القديمة، وتعمل بجدية على عدم انتقال عيوبها، ولذلك لم تبذل جهدا في تصويب أخطاء الثانية وتركتها ترزح في صخبها ومن يستمتعون به مثل صديقنا الفلسطيني، وقررت الشروع في بناء هياكل جديدة بكل ما تحمله من رمزية سياسية.

إذا لم تأت هذه الهياكل على مستوى الرهانات الحضارية التي صدرتها الأجهزة الرسمية، فإن المشروع سوف يمثل إخفاقا سياسيا واقتصادية واجتماعيا أيضا، وهو ما يفسر التردد في الانتقال قبل أن تكتمل البنية الأساسية، فالكثير من مؤسسات إدارة الحكم لا تزال بحاجة للمزيد من التجهيزات.

كما أن عملية توطين مجموعة كبيرة من الموظفين داخل العاصمة، بالقرب من مقار عملهم الجديد، يواجه مأزقا اقتصاديا، حيث لا تستطيع فئة منهم تحمل التكاليف الباهظة للسكن هناك، ولن تتمكن فئة أخرى من تحمل متاعب الانتقال من سكنها القديم إلى مقر عملها الجديد، والذي يبعد عن وسط القاهرة نحو ستين كيلومترا.

هذه واحدة من المعاناة التي تواجهها الحكومة وتبحث عن حل لها، فقد تحولت العاصمة الإدارية إلى واجهة للاستثمار من قبل بعض رجال الأعمال، ومكانا لاستقطاب شريحة من الأثرياء للحصول على مساكن فاخرة بها، ما يحولها من مدينة لإدارة الحكم إلى ما يشبه المنتجع، لتضاف إلى قافلة طويلة من المنتجعات التي تملأ مصر حاليا، وتقطنها صفوة أو كريمة المجتمع من ذوي الوفرة الاقتصادية.

لن تتخلى القاهرة القديمة عن صخبها، لأن العاصمة الإدارية التي لا زالت تبحث عن اسم تجاري أو علامة سياسية لها حريصة على أن تحافظ على الهدوء والأمن والاستقرار والتخلص من أمراض العاصمة التقليدية، والذي كان أحد دوافع التخطيط لها، من هنا أطمئن الصديق العربي أنه لن يخسر شغفه المستمر بصخب القاهرة.


شاهد أيضاً

الخطوط الخلفية في الحرب على غزة

بقلم: جمال الكشكي – صحيفة الشرق الأوسط الشرق اليوم– في تاريخ الحروب كثيراً ما تنشط …