الرئيسية / مقالات رأي / تونس… ماذا جرى في قصر قرطاج؟

تونس… ماذا جرى في قصر قرطاج؟

بقلم: محمد قواص – النهار العربي

الشرق اليوم- بثّت الفضائيات في كانون الثاني (يناير) من عام 2011 مشهداً سريالياً (يكاد يكون هوليوودياً) لمواطن تونسي يردد في شارع ليلي خلا من المارة قولته الشهيرة: “بن علي هرب، بن علي هرب”. بدا أن “ثورة الياسمين” التي فجّرتها حادثة مقتل الشاب محمد البوعزيزي (أمام مقر ولاية سيدي بوزيد في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010، قد نجحت في إسقاط النظام في تونس وهجرِ الرئيس منصبه وقصره وحكمه.

غير أن الخاتمة الحميدة لثورة الناس بدت، لمعارضي زين العابدين بن علي قبل مواليه، مفاجِئة صاعقة غير متوقعة، على الأقل بهذه السرعة غير المبررة. كانت كل مؤسّسات البلاد آنذاك تعمل، والتحركات الشعبية تحت السيطرة. كما أن تجمعات الناس، على أهميتها وشيوعها، في مدن تونس، وخصوصاً في العاصمة، لم تكن بعد لتشكل خطراً وجودياً على النظام، ولم تكن تهدد يقينا أمن الرئيس وحياته. ومع ذلك فإن “بن علي هرب”.

تجاوزت تونس على نحو مريب هذا السرّ الغامض، اعتبرته تفصيلاً ودليلاً على هشاشة النظام الذي يحكم البلد، وراحت تجترح عملية سياسية بديلة تحت عنوان “التحوّل الديموقراطي”. وبدا أن حكام البلاد الجدد قد تلقوا بركة خارجية “جبارة” تغضّ الطرف عن “انقلاب” ما، غير دستوري، وله أدوات أمنية عسكرية، أطاح على عجل رئيس البلاد مسوّقاً الأمر وفق إطار “الثورة” و “رغبة الجماهير”. وبناء على قواعد ذلك “الانقلاب” المحتمل قام النظام السياسي الذي حكم تونس منذ عشر سنوات.

لا أحد في تونس، لا الموالون لبن علي ولا معارضوه، أثار مسألة حدوث “انقلاب” في تلك الليلة التي حملت بن علي على مغادرة البلاد على عجل. وحده عبدالفتاح مورو لمّح إلى الأمر وكرر تناول الحدث بصفته غموضاً لا أحد يريد فضح حقيقته.

التقيت الشيخ عبدالفتاح مورو في تونس في خريف عام 2014. الرجل محامٍ وداعية وشخصية مشهورة في تونس وخارجها وصاحب كلمة حرة وجريئة ومثير للجدل في تناول مسائل السياسة والدين، ولطالما كان معارضاً لشعار “الإسلام هو الحل”. عرفته البلاد داخل “الاتجاه الإسلامي” ثم أحد المؤسسين لـ “حركة النهضة” مع الشيخ راشد الغنوشي. شغل مورو منصب نائب رئيس الحركة وكان مرشح الحركة للانتخابات الرئاسية عام 2019 والتي فاز بها قيس سعيد بنسبة ساحقة تجاوزت 72 في المئة. قدم مورو استقالته من “حركة النهضة” في أيار (مايو) 2020.

في مقابلتي معه قال مورو: “إننا لا نعرف ماذا حدث في قصر قرطاج” عشية الإعلان عن مغادرة بن علي البلاد في 14 كانون الثاني (يناير) 2011. وأضاف أن الحشود الهائلة في تونس العاصمة كانت على بعد 17 كلم من قصر قرطاج، وبن علي في قصره كان محاطاً بقوة حماية يصل تعدادها إلى ثلاثة آلاف جندي من الصفوة، بما كان يبعد عنه هذا الخطر الداهم الذي يضطره إلى الفرار.

لم يكن الشيخ المحامي يتحدث في اجتماع مغلق، بل هي تصريحات علنية متلفزة يمكن متابعتها على شبكات الانترنت. لم يلفظ مورو كلمة “انقلاب”، لكنه تحدث عن “ميكانيزمات غامضة” أجبرت بن علي على مغادرة البلاد على هذا النحو المفاجئ للجميع. وحين سألتُه عما منع “حركة النهضة” التي تشارك بالحكم منذ سقوط بن عن من إماطة اللثام عما حدث في قصر قرطاج، قال إن الأمر ما زال غامضاً.

قامت “الديموقراطية” في تونس وصفقات الحكم بعد “ثورة الياسمين” على قاعدة غموض “ميكانيزمات” جرى التكتم عليها توحي بأن انقلاباً أطاح بن علي. وفيما أن هذه العتمة هي مصدر السلطات التي قادت البلاد إلى تجربة ملتبسة مثيرة للجدل قادت إلى الفشل، فإن ما يصدر عن قصر قرطاج هذه الأيام، أياً كان تقييمه والجدل حوله، يجري بشكل مفرط في الشفافية التي لا تترك لأشد خصوم الرئيس قيس سعيد حججاً مناوئة ذات صدقية. حتى تهمة الانقلاب تكاد تكون حجّة متعجلة متصدّعة يشوبها تلعثم شديد يصعب الدفاع عن صحتها.

ولئن تعتبر قصة صعود قيس سعيد ظاهرة نادرة في اختراقه، وحيداً، وبدأب تفصيلي، كل الطبقة السياسية القديمة والطارئة، إلا أن شفافية الرجل تكاد تفيض بحيث أن لا أسرار تحيط به ولا كواليس يدبر خلفها مواقفه. كشف قيس سعيد المرشح عن آرائه وأسلوبه ووعوده، وراح قيس سعيد الرئيس بنفس النمط والشفافية يعبر عن مواقفه “على الهواء مباشرة”، ويصادم ما يتنافى مع مصالح البلد، بحسب رأيه. ومن يراقب أداءه منذ ما قبل القرارات التي بدأ باتخاذها في 25 تموز (يوليو) الماضي يسهل عليه استبعاد أي غشاوة تقف وراء هذا التحول المفصلي في تاريخ البلاد.

دشّنت “ثورة الياسمين” التونسية، في أواخر عام 2010 حتى نهايتها أوائل عام 2011، حقبة ما سمّي بـ “الربيع العربي”. وفيما عبّر “الربيع” في بعض البلدان العربية عن حراك عفوي أصابته عدوى الحدث التونسي، بدا أن إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما آنذاك ترعى إنعاش جماعات الإسلام السياسي لا سيما “الإخوان المسلمين” وجعلها قاطفة لثمار “الفوضى الخلاقة” التي كانت بشّرت بها عام 2005 كونداليزا رايس الى “واشنطن بوست” حين كانت وزيرة للخارجية الأمريكية آنذاك. وكانت راجت في الأروقة الأكاديمية خلال السنوات التي سبقت “الربيع” مفاهيم توصي بتسليم المنطقة لـ “إسلام معتدل” يكون قادراً على استيعاب جماعات الجهاد والإرهاب.

بدا أمر الانعطاف “الإسلاموي” أكثر وضوحاً في الحالة المصرية لاحقاً، بما يؤكد أن ما حصل في قصر قرطاج في تونس عشية رحيل بن علي كان متأثراً بإرادات التحول الجبارة التي ترسمها الولايات المتحدة في المنطقة. كانت “ويكيليكس” قد كشفت في مراسلات هيلاري كلينتون ما يتطابق مع هذه التحولات في تونس. ولاحقاص نقل عن بن علي حديثه عن خدعة تعرّض لها محملاً مسؤولية رحيله إلى قرار أميركي.

ما تغيّر على قصر قرطاج هذه الأيام هو سلسلة من التحولات. تلك التي شهدتها تونس في تجاربها الممتدة على مدى العشر سنوات المنصرمة، بما في ذلك تجربة “حركة النهضة” في الحكم. وتلك التي شهدتها بلدان المنطقة التي أسقطت نهائياً “الترياق” الإسلاموي. وتلك التي شهدها العالم، وخصوصاً في الولايات المتحدة نفسها، والذي بات يتعامل مع المنطقة وفق معطياتها وليس وفق المعطيات التي تُراد لها.

في تونس من حذّر التونسيين من عنف وإرهاب ومن أنذر الأوروبيين بطوفان من اللاجئين. غير أن تونس تغيرت وبات الشيخ عبدالفتاح مورو والشعب التونسي يعرفون بدقة ما يجري في قصر قرطاج من دون لبس أو غموض.

شاهد أيضاً

بأية حال تعود الانتخابات في أمريكا!

بقلم: سمير التقي – النهار العربي الشرق اليوم- كل ثلاثة او أربعة عقود، وفي سياق …