الرئيسية / مقالات رأي / احتجاجات تونس تعيد النخبة السياسية إلى أرض الواقع

احتجاجات تونس تعيد النخبة السياسية إلى أرض الواقع

بقلم: أسامة رمضاني  – النهار العربي

الشرق اليوم – لا يمكن أن يزعم أحد من أفراد الطبقة السياسية في تونس أن عاصفة الاحتجاجات التي تهب على البلاد منذ منتصف كانون الثاني / يناير الجاري كانت غير متوقعة. فقد كانت تظاهرات الشباب العاطلين من العمل، وغيرهم من أفراد المجتمع الذين أنهكهم تدهور مستوى المعيشة، أمراً منتظراً منذ شهور.

على مر العقود كان شهر كانون الثاني / يناير حافلاً بالهزات الاجتماعية. وقد شهدت مدن تونس وأريافها من أيام بورقيبة إلى عهد بن علي انتفاضات بلغت أوجها يوم 14 كانون الثاني / يناير 2011 عندما أرغمت الرئيس التونسي الثاني منذ الاستقلال على مغادرة البلاد. 

كان توقع الاضطرابات على خلفية تدهور مستوى المعيشة بالنسبة إلى الذين كانوا يأملون تحسناً في أحوالهم على ضوء الوعود التي أطلقها السياسيون ولم يوفوا بها. واليوم وإن يشعر معظم التونسيين بعد عشر سنوات من تلك الأحداث بأن تونس شهدت توسعاً كبيراً لرقعة الحريات وترسخاً في الممارسة الانتخابية، فإن كثيرين يرون تدهوراً في الظروف الاجتماعية الهشة خصوصاً منها المتعلقة ببطالة الشباب وخريجي الجامعات وانعدام التوازن التنموي بين جهات البلاد. كما تظهر المؤشرات أن نسبة الفقر اتسعت لتشمل أكثر من خمس السكان، على حساب الطبقة الوسطى التي تآكلت في شكل واضح. وتقول أرقام نشرتها مؤسسة سيغما كونساي إن الدخل القومي العام بالنسبة إلى عامة السكان قد تقلص بنسبة 20 في المئة منذ 2010.

لكن ماذا الذي حدث بالضبط حتى تشتعل الاحتجاجات الليلية خلال شهر كانون الثاني / يناير الجاري بالذات في الأحياء الشعبية وتتحول إلى صدامات عنيفة مع قوات الأمن؟

قد يكون السبب في الواقع ليس ما حدث بقدر ما لم يحدث. فخلال عقد كامل من الزمن لم تبرهن الطبقة السياسية على عزيمة كافية لإصلاح منوال التنمية السابق أو الشروع في إعادة بناء الاقتصاد وتوازنات المجتمع على أساس رؤية صحيحة وواضحة لحاجات البلاد عموماً وأوضاع الشباب خصوصاً.

كان في إمكان الحكومات المتتالية أن تتحرك من أجل التصدي للتراكمات السلبية الناتجة من نقاط الخلل المعروفة قبل أن تستفحل. ولكنها لم تفعل. 

انقطع عن التعليم كل سنة ومنذ عشر سنوات تقريباً حوالى مئة ألف تلميذ. ولم يكن من الصعب التكهن بأن هذه الآلوف المؤلفة من الأطفال والمراهقين الذين تتخلى عنهم المؤسسة التربوية ومن ورائها الدولة والمجتمع سوف تلتحق بصفوف العاطلين من العمل والحالمين بالهجرة غير الشرعية إن لم تسقط في فخ شبكات التهريب والتطرف والجريمة المنظمة.

وبالفعل، فإن ظاهرة التخلي المبكر عن التعليم رمت بالكثير من الأطفال والشباب في الشوارع والأزقة في مدن البلاد وقراها، في عدم انتباه جدي من السلطات وغياب أي شكل من أشكال الرعاية الأسرية أو المجتمعية.

ومع وهن قنوات التواصل الأوسع، بقي تواصل هذا الجيل من الناشئة مقصوراً في معظم الأحيان على أقرانهم ومكث هؤلاء الأطفال والشباب يدورون في حلقات مغلقة زادت التائهين منهم تيهاً.

والمؤلم أن نقطة التقاطع الوحيدة مع السلطة بالنسبة إلى الكثيرين منهم كانت وبقيت محدودة في علاقتهم الملتبسة بالقانون ومع مصالح الأمن وفرق مقاومة الشغب.

كانت أنشطتهم الاجتماعية والترفيهية، خارج الوقت الذي يقضونه في البحث عن مورد الرزق، تتلخص في ارتياد المقاهي مع أترابهم أو مشاهدة مباريات كرة القدم. بل إن إحدى الدراسات الميدانية أشارت إلى أن أحد أهم أنشطة “الترفيه” لديهم كانت الاغتسال في الحمام.

في بيئة ندرت فيها وسائل التسلية، عمّق التضييق المرافق لجائحة كورونا أزمة هذه الفئة من الشباب بخاصة بعد أن أغلِقت المقاهي وملاعب كرة القدم. 

بقي البعض منهم حبيس عالم ضيق حدوده البيت والحي وفايسبوك. كانت الشبكات الاجتماعية وسيلة لتبادل الحكايات عن واقع بلا أفق ضمن “غيتو افتراضي”، بحسب تعبير الأمين العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة كوفي أنان.

بقيت هذه الفئات الشبابية الفقيرة في عالمها الخاص بها، بعيدة كل البعد من الفئات الأخرى من الشباب التي استطاعت إكمال دراستها والدخول إلى معترك الحياة. ولا شيء يجمعها بها.

واللافت أن معظم الشباب المحتج لم يبد ميولاً سياسية واضحة وغابت عن صفوفهم القيادات التي توجههم أو تتحدث باسمهم. 

وإذ حاول بعض التنظيمات الحزبية لاحقاً توظيف التظاهرات في اتجاه أجنداتها المختلفة، فإن الاحتجاجات الليلية تميزت بخاصة في بدايتها بغياب الشعارات السياسية وإن تخلتها الكثير من أحداث العنف والنهب التي ألقت بظلالها على مشروعية الاحتجاجات على التهميش والبطالة. بل إن التظاهرات كانت في عشوائيتها مرآة لليأس من الدولة والمجتمع أكثر منها وسيلة للتعبير عن مطالبات محددة.

أعرب البعض في تونس عن أملهم في أن يوجه الشباب المحتج رغبته في التغيير نحو الانتخابات المقبلة، بخاصة أن الكثير من أطفال ومراهقي اليوم سوف يبلغون سن الاقتراع المحددة دستورياً بثمانية عشر عاماً.

ولكن الانتخابات المقررة لسنة 2024 تبدو بعيدة جداً بالنسبة إلى جيل جديد ليس من شيمته الصبر إضافة لكون أحواله لا تتحمل كثيراً الانتظار. 

كما أن تجربة الانتخابات الماضية أظهرت عزوفاً من الشباب عن الانتخابات التشريعية التي هي، بمقتضى الصلاحيات الدستورية للسلطات، مفتاح تغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدولة في تونس.

فقد أظهرت أرقام انتخابات 2019 أن 9 في المئة فقط من فئة الشباب بين 18 و25 سنة أدلوا بأصواتهم في ذلك الاقتراع في حين أنهم كانوا يمثلون 70 في المئة من الناخبين الذين سجلوا حديثاً وقتها. 

ومن المحتمل أن يعقّد التوتر الاجتماعي مهمة الحكومة الحالية في إدخال الإصلاحات الاقتصادية الكفيلة بتقليص العجز في الموازنة، ولكنه يؤكد حتمية الأخذ في الاعتبار للبعد الاجتماعي في أية مراجعات لسياسات الدولة. إذ ليس في إمكان الحكومة أن تتجاهل مشكلة الشباب العاطل من العمل والفئات الاجتماعية الفقيرة سواء داخل البلاد أو في الأحياء الشعبية المكتظة في العاصمة. 

ولكن الأزمة التي فجرها الشباب المحتج لا بد من أن يُنظر إليها كجزء من أزمة أوسع. فهي أزمة انتقال اجتماعي واقتصادي لم يرَ النور، وإن كانت الاحتجاجات لم تتوقف لسنوات كما لم تتحقق وعود المسؤولين، مما ضرب الثقة في المؤسسات المنتخبة وفي الأحزاب السياسية الفاعلة وفي الساسة أجمعين.

وتحتاج معظم الأطراف السياسية ومؤسسات الحكم اليوم إلى البحث بسرعة عن سبل لترميم صدقيتها واستعادة مكانتها ليس فقط لدى الشباب المحتجين وإنما أيضا لدى قطاعات واسعة من الرأي العام. فآخر استطلاعات الرأي تظهر أن مستوى ثقة الجمهور في الحكومة لا يتجاوز 13 في المئة فيما تنخفض هذه النسبة إلى 5 في المئة تجاه البرلمان و4 في المئة نحو الأحزاب السياسية.

من المفروض أن تكون الاحتجاجات الشبابية دقت جرس الإنذار للطبقة السياسية كي تتجاوز حساباتها الضيقة وتنزل من عليائها إلى أرض الواقع المعيش للناس. والمفروض أيضاً أن تكون الاحتجاجات ذكّرتها بأولويات الجيل الجديد من المواطنين العاديين البسطاء. ولهؤلاء حقوق مشروعة حتى وإن أساؤوا التعبير عنها في أحداث الشغب الأخيرة أو هم بقوا في نهاية المطاف خارج المعادلات الانتخابية، لأن دورهم سيبقى حيويا في معادلة حيوية هي معادلة استقرار البلاد.

شاهد أيضاً

إسرائيل تجرّ أمريكا إلى العزلة أيضاً

بقلم: سميح صعب – النهار العربي الشرق اليوم- يؤكّد تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة بغالبية …