الرئيسية / الرئيسية / لماذا ترك لبنان قنبلة قابعة في المستودعات لمدة 6 سنوات؟

لماذا ترك لبنان قنبلة قابعة في المستودعات لمدة 6 سنوات؟

كان الانفجار الذي حصل، ودمر ميناء بيروت وقسماً كبيراً من المدينة وأزهق أرواحاً لا تعد ولا تحصى، نتيجة للقيام بالعمل على النحو المعتاد.

 بقلم: فيصل عيتاني – The New York Times

الشرق اليوم- كانت أول مرة أعمل فيها في الصيف في مرفأ بيروت، كان هذا في نهاية تسعينيات القرن الماضي، وكنتُ حينها مراهقاً. فقضيت الشهور الرطبة والحارة وأنا أدخل بيانات الشحن في جزء من مشروع طموح جديد لتحويل المرفأ من النظام الورقي إلى الرقمي لحفظ السجلات. وكانت وظيفة غير مبهجة كما هو متوقع من وظيفة متدنية في أحشاء بيروقراطية الشرق الأوسط، لكن على الرغم من الحرارة الشيد والرتابة، كان هناك تفاؤل.

وكان المرفأ يُعدّ مُنشأة تحتية مهمة في اقتصاد يتجدد بعد 15 عاماً من الحرب الأهلية. وكان حفظ السجلات الرقمية جزءاً من المستقبل، ومحاولة لإدخال الشفافية والنظام على القطاع العام الذي كان في طور التعافي. فقد كان هذا نفس المرفأ الذي اعتُبر غير صالح للعمل أثناء الحرب الأهلية بسبب القوارب الغارقة والذخائر غير المنفجرة، باستثناء منطقة واحدة كانت تسيطر عليها إحدى الميليشيات.

لكن لبنان الذي خرج من تلك الأنقاض قد تلاشى، إذ خنقته الطبقة السياسية التي تسعى لمصالحها. ويوم الانفجار انتهى تماماً. فقد كان انفجار هائل في مرفأ بيروت خلف وراءه أكثر من 100 قتيل (ولا يزال العد مستمراً) و4 آلاف جريح، ودمر أحياء في المدينة. ويواجه لبنان الآن نوعاً جديداً من الكارثة التي جعلته سنوات الحرب وعدم الاستقرار السياسي غير مستعد لها.

وبحسب ما يمكن رؤيته، لم يشترك في كارثة المرفأ المتهمون المعتادون: سواء حزب الله، أو إسرائيل، أو الإرهاب الجهادي، أو حكومة الجارة سورية. والحقيقة تبدو أكثر كآبة وإثارة للقلق: عقود من العفن على كل مستويات المؤسسات اللبنانية هي التي دمرت مرفأ بيروت، وجزءاً كبيراً من المدينة، وأزهقت العديد من الأرواح. والابتذال وراء الانفجار هو بالضبط ما يجسّد العقاب والإذلال اللذين يُحملان تعرض لهما لبنان.

ورغم اتفاق المسؤولين اللبنانيين على ما حدث، إلا أنه من المتوقع ظهور أكثر من رواية “رسمية”. فهذا هو لبنان، بلد تقسمه السياسة والدين والتاريخ بشدة. لكن إليكم ما نعرفه حتى الآن بحسب ما نقلته وسائل إعلام لبنانية موثوقة: تم تخزين حوالي 2750 طناً من نترات الأمونيوم في مستودع المرفأ بعد مصادرتها من سفينة معطل في عام 2014. وفي الأمس، أدى حادث أعمال لحام إلى اشتعال ألعاب نارية بالقرب من المستودع، ما تسبب في انفجار نترات الأمونيوم.

والمرافئ عبارة عن منشآت مهمة للفصائل السياسية والمنظمات الإجرامية والميليشيات. فهناك عدد من الأجهزة الأمنية بمستويات مختلفة من الصلاحية (ومختلف الولاءات السياسية) تتحكم في مختلف جوانب عملياتها. كما أن التوظيف في البيروقراطية المدنية مرتبط بالمحاصصة الطائفية والسياسية. فهناك ثقافة متفشية من الإهمال والفساد ووباء إلقاء اللوم على البيروقراطية اللبنانية، وكلها تحت إشراف الطبقة سياسية التي تتسم بعدم الكفاءة وازدراءها للمصلحة العامة.

ومن غير الواضح ما هو مزيج هذه العناصر التي تسمح لقنبلة بالقبوع في مستودع لمدة ست سنوات تقريباً، ثم تنقل الألعاب النارية إلى جوارها، وتسمح بممارسة أعمال غير مسؤولة في مكان قريب منها. ولكن الكارثة رغم خطورتها الاستثنائية هي نتاج العمل المعتاد في لبنان. فالبلاد معتادة على الانفجارات، ومعتادة على الكوارث الناجمة عن فشل الخدمات العامة: أزمة نفايات تعود إلى عام 2015، وكارثة بيئية في العام الماضي، وانقطاع التيار الكهربائي في هذا العام لمدة تصل إلى 20 ساعة في اليوم.

ستكون تداعيات الانفجار أكثر خطورة من ضحاياها الذين سقطوا مباشرة والدمار في الممتلكات، فقد دمر الصومعة التي يخزن فيها نحو 85% من الحبوب في البلاد. وعلاوة على ذلك، لن يكون المرفأ قادراً على استقبال البضائع، إذ يستورد لبنان 80% من حاجاته الاستهلاكية، بما في ذلك 90% من القمح الذي يستخدمه لصنع الخبز الذي يعتبر العنصر الأساسي في طعام معظم الناس. وحوالي 60% من تلك الواردات يأتي عبر مرفأ بيروت، أو كانت كذلك على الأقل.

وتوقيت الحادث لم يكن ليكون أسوأ،  فقد جاء في ظل أزمة الاقتصادية عصفت بلبنان منذ شهور عديدة، فانهارت عملة الدولة، وهي مشكلة جاءت في حد نفسها نتيجة سنوات من سوء الإدارة والفساد. ولم يعد بإمكان مئات الآلاف من الناس شراء الوقود والغذاء والدواء. وبينما رأى اللبنانيون مدخراتهم تتبدد، وقوتهم الشرائية تتلاشى، ظهرت مفردات جديدة حتى بين أصدقائي وأفراد عائلتي اللبنانيين المتفائلين، فأصبحوا عندما يصفون البلد يستخدمون كلمات مثل “انتهى” و “ميؤوس منه”.

وزادت أزمة فيروس كورونا من الضغط على قطاع الصحة. فبعد الانفجار، ذكرت التقاريرك أن طواقم المستشفيات يعالجون المصابين في الشوارع ومواقف السيارات. وقد يضع الانفجار لبنان على طريق كارثة صحية وغذائية لم يمر بها حتى في أسوأ أيام الحرب الأهلية.

ويجب على الطبقة السياسية في لبنان أن تكون على أهبة الاستعداد خلال الأسابيع المقبلة: الصدمة ستتحول حتماً إلى غضب. لكنني أخشى أن العادات القديمة لا تموت بسهولة، فهؤلاء السياسيون خبيرون في تبادل إلقاء اللوم. ولا أتوقع حدوث الكثير من الاستقالات بين المسؤولين أو اعتراف بالمسؤولية رفيعي المستوى، إن حدث ذلك أصلاً.

فهل ستكون هناك ثورة؟ هل ستكون هناك انتفاضة غضب؟ إن أي اندفاع ثوري يجب أن يواجه الانتماءات العشائرية والطائفية والأيديولوجية. وهذا ينطبق أيضاً على الحقائق: حتى لو قُدّمت رواية رسمية واحدة حول حادثة المرفأ (وحتى لو كانت صحيحة)، فلن يصدقها البعض. والمفارقة هي أن عدم ثقتنا في ساستنا تجعلنا غير قادرين على التوحد ضدهم.

وهذه معوقات حقيقية، إلا أن هناك حاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى للإصلاح والمساءلة، أبعد من التضحية بمسؤولين من الصف الوسط. ومن الصعب تخيل حركة وطنية متماسكة ومستدامة للتغيير، ذلك لأنها لم تتحقق قط. لكن الجوع وانهيار الرعاية الصحية قد يغيران ذلك.

سوف يحتاج لبنان واللبنانيون إلى تدفق سريع للمساعدات الخارجية لمنع حدوث نقص الحاد في المواد الغذائية ووقوع كارثة في الصحة العامة. ويبدو أنها قادمة فعلاً من دول في الشرق الأوسط وحول العالم، لكن هذا لن يوقف تدهور البلاد، ولن تؤدي المساعدات الطارئة إلا إلى تفاقم الإذلال والعجز. وقد أوضح انفجار الأمس أن لبنان لم يعد بلداً يستطيع فيه الأشخاص المحترمون أن يعيشوا حياة آمنة ومُرضية.

وبعد أن شاهدت مقاطع فيديو تظهر فيها بيروت غارقة في الدخان، واطمأنيت على عائلتي وأصدقائي، وجدت نفسي أفكر لأول مرة منذ مدة طويلة في ذلك الصيف عندما كنت أعمل في الميناء. حيث انتهى مشروع الرقمنة، لكن الأحزاب لم تعجبها الشفافية التي جلبها، ووجدت وسائل للتحايل عليها.

لم يعد هذا مهماً اليوم… فقد دُمّر المرفأ. أما بالنسبة للبنانيين، فسيكون همهم النجاة وليس التقدم.

شاهد أيضاً

السوداني يفتتح أعمال مؤتمر العمل العربي بدورته الخمسين

الشرق اليوم- افتتح رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، صباح اليوم السبت، أعمال مؤتمر …