الشرق اليوم– للمرة الأولى، يصل الصراع بين إسرائيل وحماس إلى قلب الخليج. إذ أعادت غارة إسرائيلية على مبنى في الدوحة رسم حدود جديدة للحرب، وزجت بقطر، الحليف الأميركي، وسيط السلام، في عين العاصفة.
مع ذلك، لم تأت الغارة من فراغ. ففي الثاني من سبتمبر، نشرت “الحرة” معلومة، بدت عابرة حينها، عن خطة عاجلة لتوسيع مديات السلاح الجوي الإسرائيلي.
وعندما وصلت الصواريخ الإسرائيلية قبل يومين إلى الدوحة، بدا واضحا أن تلك الخطة لم تكن مجرد حبر على ورق، بل جزءا من واقع تسعى إسرائيل لترسيخه عبر سماء المنطقة.
تشمل الخطة شراء طائرتيْن إضافيتيْن للتزود بالوقود جوا من طراز KC-46، في خطوة تهدف، وفقا للمصدر نفسه، إلى توسيع نطاق عملياتها الجوية إلى ما يُعرف بـ”الدائرة الثالثة”، أي مناطق بعيدة تشمل إيران واليمن وأجزاء من باكستان والقرن الأفريقي.
واعتبر المسؤول الإسرائيلي أن التوسَع في هذا المجال “ضروري لمواجهة بيئة جوية معادية ومعقّدة”، وضمان حرية الحركة لسلاح الجو في أيّ ساحة قتال مستقبلية، وأكد أن الحكومة الإسرائيلية خصّصت أيضًا ميزانيات لبرامج سرّية، دون الكشف عن طبيعتها أو أهدافها، مشيرًا إلى أنها تندرج ضمن ما وصفه بـ”الحفاظ على التفوّق النوعي” في مواجهة التحديات الإقليمية المتنامية.
ترجمة هذه الخطة على الأرض لم تتأخّر كثيرًا. المقاتلات الإسرائيلية شنّت هجومًا بالصواريخ على مبنًى في الدوحة التي تبعد عن القدس نحو 1750 كيلومترا على الأقل، مستهدفة قيادات من حركة حماس.
وأشارت تقارير صحفية عدة إلى أن المقاتلات الإسرائيلية لم تمر فوق السعودية أو الإمارات، ما يعني أنها ربما قطعت مسافة أطول من أجل شن الهجوم، وإن كانت بض التقارير الصحفية قد ذكرت أنه شنّ من خارج الأجواء القطرية، وهو أمر لا يغيّر شيئًا في “معادلة المسافة”.
معلومتان إضافيتان تصبّان أيضًا في الاتجاه نفسه. الأولى أن الغارة على الدوحة إسرائيلية بالكامل وفقًا لما أكّده البيت الأبيض. الثانية أنها استتبعت بغارات أخرى شنّتها إسرائيل على اليمن، جاءت فارقة لجهة عددها والمناطق الجغرافية التي وصلت إليها هذه المرة.
الضربة بين العقيدة العسكرية الإسرائيلية و”مفاوضات غزة”
على أن الأهم يبقى في ما ينتج عن هذا التطوّر وما ورد في حديث المسؤول الإسرائيلي لـ”الحرة”.
على المستوى العسكري، ثمة توسعة للصراع جغرافيا، ربما تعيد أو تمهّد لإعادة تشكيل العقيدة القتالية للجيش الإسرائيلي، وتنقل ساحات الصراع إلى دول جديدة، كانت حتى زمن قريب خارج دائرته.
كما أن الضربة قد توقف عجلات المفاوضات الهادفة إلى إنهاء الحرب في قطاع غزة والإفراج عن الرهائن الإسرائيليين، فهي جاءت في لحظة بالغة الحساسية؛ إذ كانت المفاوضات، بوساطة قطرية وأميركية، على وشك أن تفضي إلى اتفاق لوقف إطلاق النار يشمل تبادل أسرى. لكن استهداف وفد حماس في الدوحة نسف عملياً ما تبقى من ثقة بين الأطراف، كما يقول ألون بن مئير: “إسرائيل استهدفت أشخاصاً كانوا يجلسون للتفاوض حول وقف إطلاق نار، وهذا أمر مقلق جداً للقطريين وللدول العربية”.
تحالفات واشنطن في الخليح أمام امتحان صعب
أما على المستوى السياسي، وهو الأهم، فإن هذا التطور وضع الولايات المتحدة أمام معضلة نادرة: حليفها الأقرب، إسرائيل، يضرب حليفها الاستراتيجي قطر، التي تحتضن قاعدة العديد ومكتب الوساطة مع “حماس”. والأهم أن قطر تُصنّف أكبر حليف للولايات المتحدة من خارج الناتو، ما يجعل استهدافها سابقة خطيرة في منظومة التحالفات الأميركية.
الأستاذ السابق في جامعة نيويورك ألون بن مئير قال في حديث للحرة إن العملية ما كانت لتتم دون ضوء أخضر أميركي: ”لا أعتقد أن نتنياهو كان ليتصرّف بهذه الطريقة الجريئة دون موافقة أميركية، خاصة وأن الضربة وقعت على بُعد نحو 20 ميلاً فقط من أكبر قاعدة عسكرية للولايات المتحدة في قطر”.
وإذا كانت إسرائيل قد حصلت فعلًا على ضوء أخضر أميركي، فإن هذا التطوّر قد يعكس أزمة أعمق: ثقة دول الخليج في مظلة الأمن الأميركية قد تتزعزع مع سماح واشنطن لحليف بأن يضرب حليفاً آخر له مكانته المهمّة في الحسابات الاستراتيجية الأميركية.
بالنسبة لعواصم الخليج، مثّل قصف الدوحة تجاوزا غير مسبوق. السعودية والإمارات والبحرين – رغم تفاوت علاقاتها مع إسرائيل – وجدت نفسها مضطرة للتنديد العلني والتعبير عن التضامن مع قطر. لكن خلف البيانات الرسمية، يتعاظم القلق: إذا لم تكن قطر، الحليف الأميركي والوسيط المقبول، بمأمن، فما الذي يضمن أمن الآخرين؟
بن مئير يلخص هذه المخاوف قائلاً: “الدول الخليجية تتساءل: إذا سمحت الولايات المتحدة لحليف أن يهاجم حليفاً آخر، فما الضمانة أن لا يحدث ذلك معنا؟ لديهم قلق شديد حيال التزام واشنطن بأمنهم”.
شظايا “غارة الدوحة” تصيب اتفاقات أبراهام
ليس بعيدًا عن ذلك، يبدو أن شظايا الغارة على الدوحة قد طالت اتفاقات أبراهام التي شكّلت عماد السياسة الأميركية والإسرائيلية في الخليج.
العملية وقعت عشية الذكرى الخامسة لتوقيع هذه التفاقات، المشروع الذي حاول نتنياهو من خلاله تجاوز الملف الفلسطيني وبناء علاقات مباشرة مع الخليج، لكن القصف في الدوحة ألقى بظلال قاتمة. يقول بن مئير: “هذا التطور يجعل من الصعب جداً أن تنضم السعودية أو غيرها قريبا، إنه نكسة لاتفاقات أبراهام”.
ويصف جيمس جيفري، الزميل في معهد واشنطن، السفير الأميركي السابق في العراق، الغارة الإسرائيلية في قطر بأنها “سياسة غير حكيمة، لأن المكاسب العسكرية لا تتناسب مع التكاليف السياسية والدبلوماسية”.
ويضيف قوله: “لكنني أعلم من خلال مشاركتي الشخصية أننا، نحن والإسرائيليون، وآخرون، اتبعنا هذا النهج بشكل روتيني ‘لا تقصف، المكاسب محدودة. الأفضل التحدث’ بين عامي 2000 و2023، وكانت النتيجة أن إيران طورت إمبراطورية من الوكلاء وانتهى الأمر في نهاية المطاف إلى السابع من أكتوبر”.
أما آرون ديفيد ميلر، الزميل البارز في مؤسسة كارنيغي، فيرى أن التطبيع لم يُلغَ بعد، لكنه فقد بريقه: “منذ 7 أكتوبر، قُتل أكثر من 60 ألف فلسطيني، نصفهم أطفال، ومع ذلك لم تفرض مصر أو الأردن أو قطر أو السعودية أو الإمارات أيّ كلفة على إسرائيل أو الولايات المتحدة. القصة ليست أن التطبيع توقّف، بل أن ما هو قائم لم يتأثر رغم هذا الحجم من المأساة”. يضيف ميلر: “الآن إسرائيل قصفت عاصمة عربية، سنرى ما إذا كان ذلك سيغير حسابات الدول العربية، أشك في ذلك، لكنني أنتظر لأرى”.
إلى أين؟
الضربة الإسرائيلية في الدوحة خلقت ارتدادات واسعة. دفعت بالصراع إلى حلبة جديدة ضمن “لإطار الدائرة الثالثة”، ووضعت واشنطن أمام معادلة مستحيلة: كيف تحافظ على شراكتها الاستراتيجية مع إسرائيل من دون أن تخسر الثقة الخليجية التي بُنيت على وعد الحماية؟
وربما، كما يقول ميلر، فإن القصة الأعمق ليست في المفاوضات أو التطبيع، بل في “قدرة المنطقة على امتصاص هذه الصدمات دون انهيار منظومة التحالفات بالكامل”، زد على ذلك، ما قد ينتج عن ذلك من تحوّل دول أخرى إلى ساحات للصراع.
المصدر: الحرة
الشرق اليوم اخباري تحليلي
