الرئيسية / مقالات رأي / عن اغتيال شكري بلعيد وتقسيم الحقيقة

عن اغتيال شكري بلعيد وتقسيم الحقيقة

بقلم: أحمد نظيف- النهار العربي
الشرق اليوم– بعد انتظار دام أكثر من عام، حكم القضاء التونسي بالإعدام على أربعة مدانين في قضية اغتيال الزعيم اليساري شكري بلعيد عام 2013. وقبل عامٍ، أعلنت وزارة العدل تشكيل لجنة خاصة مكلفة “متابعة ملف الاغتيال” والتدقيق في التحقيقات والملاحقات التي باشرتها الشرطة والقضاء بشأن اغتيال بلعيد والزعيم القومي محمد البراهمي. وتضمنت الأحكام أيضاً عقوبة السجن مدى الحياة ضد متهمين اثنين. وتراوحت باقي الأحكام بالسجن لمدة تتراوح بين عامين و120 عاماً، فيما سيخضع متهمون آخرون إلى العقوبة الإدارية بين ثلاثة وخمسة أعوام.

لكن الغريب أن الأحكام طالت فقط عناصر التنفيذ، من دون أن تشمل من خطط ومول وصاحب المصلحة الأصلي في موت بلعيد. والأكثر غرابةً أن أنصار الرئيس قيس سعيد، احتفوا على نحو كبير بهذه الأحكام، مدعين أنها تضع حداً لسنوات من غياب الحقيقة حول عملية الاغتيال، مع أنهم يتهمون “حركة النهضة” التي كانت في السلطة عام 2013 بالوقوف وراء العملية.

في المقابل، اعتبرت “حركة النهضة” في بيان رسمي، أن صدور الحكم في القضية، دليل إلى “براءتها من دمه، وإلى أجندة مشبوهة” لهيئة الدفاع عنه التي استهدفت الحركة “ظلماً وعدواناً”.

إذاً، نحن إزاء حالةٍ غريبةٍ. فأنصار النظام الحاكم يعتبرون الحكم من “منجزات” الرئيس سعيد في “تطهير القضاء”، والمعارضة الإسلامية تعتبر الحكم “إنصافاً تاريخياً لها”، فيما يذهب قطاع آخر من أنصار الرئيس إلى اعتبار الحكم جزءاً أول من القضية يتعلق بعناصر التنفيذ، فيما ستفصل المحاكم مستقبلاً في الجزء الثاني الذي يتعلق بالمخطط وصاحب المصلحة، وهو الملف المعروف إعلامياً بـــ”قضية الجهاز السري لحركة النهضة”.

عموماً، ليس من الشائع أو حتى الجائز في فقه القضاء التونسي تقسيم القضايا إلى أجزاء. لكن نص الإحالة الذي صاغته المحكمة، بعد عامٍ من عملية الاغتيال، لم يشمل في ذلك الوقت ملف قضية “حركة النهضة” وعلاقتها بالعملية، وذلك لأن الحركة حينذاك كانت في السلطة، وتسيطر على الجهاز القضائي.

ورغم أن الرئيس التونسي الذي جعل من اغتيال الشهيدين قضية وطنية، بإعلانه منذ وصوله إلى السلطة أنه “يريد الكشف عن حقيقة الاغتيال”، وأن “دماء الشهداء لن تذهب سدى”، وأنه “حريص على تطبيق القانون على الجميع”، وأن “الدولة يجب أن تستخدم كل وسائلها لكشف الحقيقة كاملة”، كما أمر منذ حزيران (يونيو) 2022 بإقالة عشرات القضاة من بينهم قضاة يشتبه بأنهم عرقلوا التحقيق. إلا أنه – بوصفه مسيطراً على الجهاز القضائي بحكم الصلاحيات الواسعة التي منحها لنفسه دستورياً – لم يقم – من خلال وزارة العدل – بإعادة تشكيل القضية وضمّ أجزائها، بدلاً من تقسيمها كما أرادت “النهضة”، في الوقت الذي قام فيه بإعادة تشكيل كل المؤسسات في البلاد، بما فيها شكل النظام السياسي وأرضيته الدستورية!

لذلك فإن إرادة الرئيس في التوجه نحو حلّ هذه القضية العالقة والمهمة، والتي بقيت أحد عشر عاماً بلا حلّ ومصدر تأزيم للوضع في البلاد، سيكون رهن قدرته على تجاوز ”بدعة” تقسيم القضية إلى قضايا، إما من خلال ضمّ كل الملفات في ملف واحد، أو المرور إلى حلّ جذري وهو إعادة التحقيق فيها من الصفر.

وهذا يعيدنا إلى مفارقة الاستعصاء الذي تجابهه الحقيقة للظهور في قضايا الاغتيالات السياسية في تونس، خلال فترة ما بعد الثورة، حتى في ظل نظام يقوده رئيس يملك صلاحيات واسعة تشمل القضاء، وكذلك من مصلحته أن تظهر الحقيقة في مواجهة خصومه الإسلاميين. وهو استعصاء يعود إلى طبيعة جرائم الاغتيال السياسي التي تنفذها الدول. فجريمتا اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي، هما من جرائم الدولة. فالجُناة عندما ارتكبوا ما ارتكبوا كانوا يمثلون سلطةً حاكمةً، ولئن اعتمدوا على أجهزة موازية للتنفيذ إلا أنهم اعتمدوا على أجهزة الدولة بمستويات مختلفة للتغطية على الجريمة، في مستوى أمني أولاً ومستوى قضائي لاحقاً. وهنا يجب أن نستحضر أساساً الدور المحوري الذي لعبه النائب العام السابق في تحويل وجهة البحث عن الحقيقة إلى اتجاه يتناسب مع سياسات “حركة النهضة” وحلفائها، خلال سنوات حكمها، لا سيما أن ملف الاغتيالات السياسية كان ولا يزال مرتبطاً عضوياً بملف الجهاز السري لـ”حركة النهضة”، وما قامت به عناصر موالية للحركة داخل الجهاز القضائي هو عملية الفصل الإجرائي بين هذه الملفات، وبالتالي تفريق الحقيقة وتشتيتها، حتى لا يكاد القضاة في دوائر الاتهام يدركون حقيقة ما حصل كلياً.

إن الطبيعة المعقدة والسياسية للجرائم التي ترتكبها الدول – أو الأنظمة السياسية على وجه التحديد – تجعل من شبه المستحيل أن تُكشف حقائقها، إلا بعد عقود طويلة من اختفاء أصحاب المصلحة فيها. لذلك فإن استعصاء الحقيقة في هذه القضية لا يعود إلى قوة القتلة، بل لأنهم كانوا يوماً في السلطة، ولئن خرجوا منها فإن من استعانوا بهم ما زالوا هناك. وأعتقد أننا في تونس لدينا أمثلة بارزة في هذا الشأن، كاغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد على يد منظمة “اليد الحمراء” الفرنسية، التابعة للاستخبارات الفرنسية، عام 1952، واغتيال الزعيم الوطني صالح بن يوسف على يد عناصر من جهاز الأمن التونسي في سويسرا عام 1961.

شاهد أيضاً

إنصاف «الأونروا»

بقلم: وليد عثمان – صحيفة الخليج الشرق اليوم- لم تكن براءة وكالة الأمم المتحدة لغوث …