الرئيسية / مقالات رأي / “نادي غاريك”.. وديموقراطيّة الذّكور البريطانيّة!

“نادي غاريك”.. وديموقراطيّة الذّكور البريطانيّة!

بقلم: عمّار الجندي- النهار العربي
الشرق اليوم– في قلب حي المسارح اللندني، وعلى مرمى حجر من سينما أوديون، حيث يتقاطر النجوم كلما حان موعد عرض افتتاحي لفيلم عالمي، يقع مبنى عتيق من طبقتين بحجم متوسط تلوح عليه علائم الفخامة والغموض. من يدخله للمرة الأولى يشعر وكأنه يعود مئتي سنة إلى الوراء وسافر على متن “آلة الزمن”، رواية الخيال العلمي المعنونة باسمها لإتش. ج. ويلز، الذي كان من رواد النادي في القرن الماضي، إلى جانب شعراء مثل ت. إس. إليوت ودبليو إتش أودن وممثلين كبار كلورنس أوليفيه وجون غيلغود. وسبقهم جميعاً إليه في القرن التاسع عشر تشارلز ديكنز.

مكان كالمتحف بما فيه من أثاث مضمخ بعبق الماضي ولوحات وتحف وتماثيل تجعله فريداً. هذا هو “نادي غاريك”، أحد أقدم النوادي الخاصة في العالم الذي تأسس في 1831 إحياءً لذكرى ديفيد غاريك (1717-1779) أهم ممثل بريطاني حتى ذلك الوقت.
ولا يزال حريصاً على البقاء خارج الزمن في قوقعته، من قواعد وعادات عمرها عشرات السنوات، منها عدم قبول المرأة بين أعضائه. فهي تدخله فقط كزائرة “ثقيلة” لا يسمح لها بأن تتجول بحرية أو تجلس حيث تشاء، أو أن تدفع ثمن طعامها وشرابها. ثمة آخرون لا ينالون شرف العضوية، لكنهم لا يشدون اهتمام الإعلام البريطاني المعني بـ”قضية” المرأة وحدها في النادي حيث النخب تمانع إفساد ذكوريته الصافية وبياضه الناصع!

قد تمر من أمامه عشرات المرات من دون أن تعرف ما هو. وإن كنت محظوظاً فسترى برايان كوكس أو بنيديكت كومبرباتش أو غيرهما من النجوم يصعدون الدرجات الثلاث قبل أن يغيبوا خلف الباب ذي اللون الداكن. أو لعلك تشاهد أوليفر داودين نائب رئيس الوزراء ومايكل غوف وزير المجتمعات وهما يخرجان منه. أو قد تلمح واحداً من عشرات النواب واللوردات أو المطارنة والكهنة الذين ينتسبون إليه شأنهم شأن كبار الإعلاميين ورؤساء العديد من المؤسسات الفنية المعنية بالأوبرا والمسرح والموسيقى ومراكز البحوث.

ومن المستبعد أن تقع عيناك على أهم أعضائه، الملك تشارلز الثالث، الذي زاره وهو ولي للعهد إلا أنه لن يعود ثانية على الأغلب، وإن كان سجل الأعضاء يزدان باسمه.

والبركة في الآخرين الذين يمثلون المجتمع البريطاني الراقي على تنوعه، حتى أن النادي وصف بـ”لقطة فوتوغرافية عجلى” للمؤسسة البريطانية، على حد تعبير “الغارديان”. والتوصيف في محله لأنه يضم النخبة التي تدير البلاد عملياً. الصحيفة التي شنت حملات عدة منذ ستينات القرن الماضي على “غاريك” مطالبة بتخليه عن موقفه النمطي الجنساني من المرأة، استأنفت المحاولة أخيراً من خلال تقارير جديدة عدة تضمنت أسماء رواده الذين يمسكون بخيوط النظام.

سايمون كيس سكرتير مجلس الوزراء رئيس جهاز الخدمة المدنية، وريتشارد مور رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية (إم اي6)، كانا حتى أيام قليلة في مقدمة أعضائه الـ1500، بيد أنهما اضطرا إلى الاستقالة، على مضض كما يبدو، بعدما وضعت “الغارديان” النادي في قفص الاتهام.

وفيه أحد قضاة المحكمة العليا الـ12، وهي أرفع محاكم إنكلترا وويلز وإيرلندا الشمالية، علاوة على 13 من قضاة محاكم أخرى و150 محامياً من مرتبة “مستشار الملك” الرفيعة. وليس واضحاً كيف يمكن لهؤلاء القضاة أن يحاكموا المرأة بنزاهة في دعوى ضد رجل وهم يتبنون موقفاً ذكورياً مستلهماً من القرن التاسع عشر يعتبرها أدنى من خصمها مستوى؟

هناك من ينفي أن يكون النادي مهد النظام والمكان الذي يعقد فيه أعضاء النخبة الحاكمة صفقاتهم. ويؤكد أن دوره يقتصر على توفير فضاء واحد للمهتمين بالفنون بفضل علاقته الجوهرية بالمسرح الذي كان الدافع إلى إنشائه. إذا كان كذلك فماذا يمنعه من احتضان المرأة التي برزت عالمياً مثل حائزات الأوسكار ماغي سميث وجودي دينش وفانيسا ريدغريف؟

وسواء سمح للمرأة بالانتساب إليه أم لم يفعل، فكثيرات قلن إنهن لن يحاولن الانضمام إليه، حتى ولو أهداهن العضوية. ويرجع الاهتمام به لكونه يوفر فرصة لمعاينة دلالات سطوة أصحاب العقلية الذكورية على المؤسسة الحاكمة عموماً، ما يساعد على فهم طبيعة الحياة السياسية في البلاد فهماً أفضل. وهو أعرق النوادي الخاصة، وأغناها بالأعضاء النخبويين، علماً أن أغلب هذه النوادي يستبعد المرأة أو الرجل، ما يوحي بوجود شرخ عميق بين الجنسين في الثقافة البريطانية.

يعامل “غاريك” المرأة، التي صارت ملكة ورئيسة وزراء ووزيرة، على نحو نمطي جنساني مجاور للعنصرية، إن لم يكن في صميمها. فهل يستطيع أن ينصف أبناء الأقليات المهمشين ولو بلغ بعضهم مراتب متقدمة في المؤسسة الحاكمة؟

والواقع أن قواعده ونمط حياته وطريقة إدارته تبدو كلها مستنسخة من عالم ذكوري كالذي ساد في وقت سابق على موجات الهجرة من أقاصي الإمبراطورية التي جاءت بآسيويين وأفارقة استقروا في المملكة المتحدة. لكن لا وقت لدى “نادي غاريك” لهؤلاء “الأجانب” الذين يرأس أحد أحفادهم حكومة بريطانيا ويشغل آخر منصب عمدة عاصمتها، ويتزعم ثالث واحدة من مكوناتها الأربعة.

من الصعب أن تجد أحداً يتهم النادي بالعنصرية صراحة، مع أنها تبقى كالحقيقة المسكوت عنها. وهناك من ينفيها علناً عنه فيشي من حيث لا يدري بحضورها السري. ويدل إليها بشكل أوضح خلوه شبه المطلق من أبناء الأقليات الإثنية والدينية. صحيح أنه يقبل عضوية المثليين. إلا أنك قلما ترى مسلمين أو ملونين أو سوداً فيه كضيوف. وربما لم يحصل على العضوية أي أسود سوى كواسي كوارتينغ، وزير المالية الأسبق، وهو من كبار سياسيي اليمين البريكستيين في حزب المحافظين، ما يجعله “أبيض” على أساس الطبقة والأيديولوجيا.

العنصرية التي تمارس ضد هؤلاء الذين تنبذهم أيضاً “جنة” النادي الأرستقراطي، تتعرض للتجاهل شبه التام في تقارير “الغارديان” وغيرها من الصحف البريطانية. غير أن تسليط الضوء عليهم ضروري، ليس فقط لإحقاق الحق، بل حتى تتضح بدقة أكبر طبيعة المكان الذي يثير الفضول. ولو رفض “غاريك” كناد، وكنسخة مصغرة عن المؤسسة الحاكمة، منح العضوية للسود والمسلمين والمثليين، واستقبل النساء بالترحاب، لما كان ذلك يكفيه حتى يصلح صورته.

قد يقول قائل: هل ينطوي سلوك النوادي على كل هذه المعاني المتعلقة بالمؤسسة الحاكمة وأبطالها؟ نعم، طبقاً للمؤرخ والعالم السياسي الفرنسي ألكسيس دو توكوفيل الذي اعتبر أن جذور الديموقراطية الأميركية في الغوغاء، والديموقراطية البريطانية في النوادي. لكنه لم يلفت إلى أن ديموقراطية النوادي النخبوية ذكورية قلباً وقالباً!

شاهد أيضاً

جامعات أميركا… حقائق وأبعاد

بقلم: إياد أبو شقرا- الشرق الأوسطالشرق اليوم– «الانتفاضة» التي شهدها ويشهدها عدد من الحُرم الجامعية …