الرئيسية / مقالات رأي / الصوم لغةٌ روحيةٌ مشتركةٌ بين المسلمين والمسيحيّين…

الصوم لغةٌ روحيةٌ مشتركةٌ بين المسلمين والمسيحيّين…

بقلم: حسن إسميك- النهار العربي
الشرق اليوم– الصوم واحدٌ من أقدم الطقوس الروحانية عند البشر، مارسته الشعوب منذ القِدم، كلما أرادت أن تتحضر لحدث مهم وكبير، والصوم أيضاً شعيرة دينية مشتركة بين جميع الأديان السماوية، وهذا ما أخبرنا به الله سبحانه وتعالى عندما خاطب المؤمنين فقال: ﴿يا أيُّها الّذين آمنُوا كُتب عليْكُمُ الصّيامُ كما كُتب على الّذين من قبْلكُمْ لعلّكُمْ تتّقُون﴾. ويقال إنّ سيدنا آدم أوّل من أدى فريضة الصيام، وتنقُل التعاليم المسيحية أن عيسى عليه السلام قد صام أربعين يوماً قبل أن يقبض عليه الرومان، أما رسولنا الكريم محمد ﷺ فقد صام شهر رمضان تسع سنوات منذ أن فُرض صيام الشهر على المسلمين في السنة الثانية للهجرة. وفي فرض الصيام على المؤمنين حكمة إلهية كبرى، تتجاوز فكرة الانقطاع عن الطعام أو الشراب إلى أهداف ومقاصد روحانية عظيمة تجعلنا أقرب إلى الله سبحانه وأرحم بأنفسنا وبمن حولنا.

بالطبع، يختلف الصيام عند أتباع الديانات السماوية الثلاث من نواحٍ عديدة، ففي رمضان، يُمسكُ المسلمون عن الطعام والشراب من الفجر إلى غروب الشمس، فيما يصوم المسيحيون نحو أربعين يوماً – تزيد قليلاً عند بعض الطوائف – قبل عيد الفصح، وفيما يصومُ المسلمون عن الطعام والشراب من الفجر إلى المغرب، يمتنع المسيحيون عن أنواعٍ بعينها من الطعام والشراب نهاراً وليلاً طيلة فترة الصوم. أما اليهود فالصيام عندهم إلزامي فقط في “يوم الغفران” وهو ذكرى نزول موسى عليه السلام من سيناء للمرة الثانية ومعه ألواح الشريعة، فقد أخبرهم حينها بأن خطيئتهم في عبادة العجل الذهبي قد غُفرت. ويمكن أن يصوم اليهوديُّ اختيارياً على نية نيل مراد ما أو التكفير عن خطأ أو لطلب الرحمة من الرب.

لكن، ورغم أوجه الاختلاف هذه، فإنّ أوجهاً كثيرة أخرى يتشابه فيها الصيام لدى أتباع الرسالات السماوية، خصوصاً بين المسلمين والمسيحيين، ففلسفة الصيام متشابهة، من حيثُ إنه رحلة روحية واحدة تُقرّبُ من الله وتُعلّم الصبر والتحمّل والعطف والرحمة، ومن حيث كونه سبيلاً واحداً نحو السمو الروحي والارتقاء الأخلاقي. يقول الحديث الشريف: «إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»، ويقول المسيح في موعظة الجبل: “طوبى للجياع والعطاش إلى البر، لأنهم سيشبعون”. لذا، ورغم اختلاف الطقوس، تظلُّ المعاني والمقاصد من الصيام نقطة التقاء واجتماع.
ومن المصادفات الجميلة هذا العام، أن شهر رمضان المبارك، يتزامن مع فترة “الصوم الكبير” عند المسيحيين بمختلف طوائفهم الشرقية والغربية. مصادفةٌ روحانيةٌ تعيد تذكيرنا بالقيم المشتركة، قيم التسامح والتعايش بين أتباع الديانتين، وتؤكّد على وحدة المشاعر الإنسانية في سعيها للارتقاء الروحيّ. ففي الإسلام، يمثّل شهر رمضان المبارك فرصة للتأمل والتقرب من الله تعالى، من خلال الصوم والعبادة وقراءة القرآن الكريم؛ وكذلك الصوم الكبير عند المسيحيين هو فترةٌ للتوبة والتهذيب الروحيّ، استذكاراً لسيرة السيد المسيح عليه السلام.

وليس الاشتراك في بعض تفاصيل الصوم أو الاحتفال بالعيد بالأمر الغريب عن منطقتنا العربية، وكثيراً ما نشاهد رجال دين مسيحيين على موائد الإفطار، بل إن بعض الكنائس تنظّم موائد إفطار رمضانية دورياً، ولا أظنّ أن مسلماً في منطقتنا لم يدعُ جاره المسيحي من قبل إلى طعام الإفطار في بعض أيام رمضان، كما أعرف مسيحيين كثراً يمتنعون عن تناول الطعام والشراب أمام المسلمين خلال شهر رمضان المبارك في العمل وفي الجامعات ومختلف الأماكن العامة.
يتجاوز تلاقي الصوم هذا العام حدود الطقوس الدينية، ليكون إشارة للتسامح والتعايش بين أتباع الديانتين، وإلى أنّنا جميعاً ننتمي إلى عائلةٍ إنسانيةٍ واحدةٍ في ظلّ رحمة الله تعالى.

هذا التزامن فرصة لنتذكر أن المؤمنين كلهم يلتقون على مبادئ إنسانيةٍ مشتركةٍ، مثل التسامح والمحبة والرحمة وخوف الله وطاعته، ولنقف للحظة ونتأمل في معنى الصيام وأهدافه السامية، فهو رحمة كبرى من الله تفوق حالة الجوع والعطش، وهو البداية والظاهر لإمساك الألسن عن الكذب والزور والغيبة والنميمة، وإمساك الجوارح عن كل أذى أو ضرر، والإمساك عمّا يُغضب الله وما لا يرضى عنه من الأقوال والأفعال واجب مستمر. فالصيام إذاً هو فريضة، وهو دعوة للتركيز على الروحانيات وتصفية النفس من كلّ ما هو سلبيّ، وفرصة للتقرب من الله عزّ وجلّ من خلال العبادة والدعاء. وهو أيضاً تأكيدٌ على أن جوهر الأديان السماوية واحد، وأن ما يجمع بين أتباعها أكثر بكثير مما يفرق بينهم، ومن خلال بعض الشعائر كالتشارك في الصيام والتقوى، يمكننا كسر حواجز الاختلاف وأسباب الخلاف، وبناء جسور التواصل والتفاهم.

يُمثّلُ الصّومُ لغةً روحيةً مشتركةً بين الدّين الإسلاميّ والمسيحيّ، تُقرّبُ المؤمن منْ خالقه وتُنيرُ دروبه بنور التّقوى والصّبر، وتعلّمه ضبط النفس والتّسامي عن رغبات الجسد، وبلوغ حالةٍ من السموّ الروحيّ. وفي هذا الشهر الفضيل، وفي زمن الصوم المسيحي الذي تزامن معه، نرفعُ أيدينا بالدعاء إلى الله، أنْ يُوحّد قلوبنا، ويجمعنا دائماً على الخير والسلام.

صوم مبارك لكلا الفريقين.. وتقبل الله من الجميع..

شاهد أيضاً

جامعات أميركا… حقائق وأبعاد

بقلم: إياد أبو شقرا- الشرق الأوسطالشرق اليوم– «الانتفاضة» التي شهدها ويشهدها عدد من الحُرم الجامعية …