الرئيسية / مقالات رأي / إخراج القوات الأمريكية من العراق والهزيمة السياسية للفصائل المسلحة…

إخراج القوات الأمريكية من العراق والهزيمة السياسية للفصائل المسلحة…

بقلم: عقيل عباس – النهار العربي

الشرق اليوم- عَقد مجلس النواب العراقي في العاشر من شباط (فبراير) الماضي جلسةً يُفترض أنها استثنائية و”مخصصة لمناقشة الاعتداءات على السيادة العراقية”. بحسب البيان الرسمي للمجلس، استهلَّ رئيس المجلس بالنيابة، محسن المندلاوي، الجلسة بـ”رفض المجلس واستنكاره للاعتداءات على العراق من أية جهة، وتحت أية ذريعة كانت، وإدانة الاعتداءات الأميركية التي طالت الحشد الشعبي وقياداته… فضلاً عن الدعوة لتنفيذ قرار مجلس النواب رقم (18) لسنة 2020، المتعلق بإخراج القوات الأجنبية وإنهاء مهامها في العراق بناءً على تطور القدرات الأمنية العراقية”.

أيضاً، أشار البيان المنشور في الصفحة الرسمية للبرلمان إلى تسلم المندلاوي طلباً مقدماً “من 100 نائب بإحالة مقترح قانون إخراج القوات الأجنبية من العراق الى اللجنتين القانونية، والأمن والدفاع”، لافتاً الى أن “من واجب الحكومة مطالبة هذه القوات بمغادرة العراق جراء انتهاء الاتفاقية الأمنية”.

في الحقيقة، يمكن اعتبار كامل هذه اللغة البرلمانية التخريجة المتيسرة الأفضل لتحويل هزيمة سياسية مدوية للفصائل المسلحة وحلفائها السياسيين داخل البرلمان العراقي وخارجه الى مجرد مطالبات طابعها برلماني روتيني، وتذكير للحكومة العراقية بواجباتها المفترضة (الإشارة للاتفاقية الأمنية في البيان البرلماني مغلوطة، قد يكون طابعها التضليل المقصود أو ناتجة عن سوء فهم عميق، حتى في الأوساط البرلمانية، لمعنى هذه الاتفاقية ووظيفتها، فهذه الاتفاقية نُفذت وانتهى مفعولها بنهاية عام 2011 عندما انسحبت القوات الأميركية من العراق في اطار اتفاق عراقي – أميركي حينها).

قبل هذه الجلسة البرلمانية صَعّدت الفصائل المسلحة -وحلفاؤها السياسيون – خطابَها ضد وجود القوات الأميركية في البلد، مطالبةً بإخراجها، في سياق ضغط أوسع كان يُمارَس ضد الحكومة العراقية لدفعها للمطالبة الرسمية بإخراج هذه القوات. كان هناك الكثير من الثقة المعتادة في خطاب التصعيد هذا بخصوص معنى الوطنية العراقية وكيف أن الفصائل تتمثل هذا المعنى عبر تصوير العلاقة بين العراق وأميركا بوصفها قائمة على ثنائية الاحتلال والتحرير: العراق بلد تحتله الولايات المتحدة الأميركية فيما تقوم الفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران بمهمة تحرير البلد من هذا الاحتلال! ما يساعد على نشر هذا الفهم المغلوط، وترسيخه أحياناً، للعلاقة بين البلدين هو صمت عام عراقي، رسمي وإعلامي، في الدفاع عن العلاقة بين البلدين ووضعها في إطارها الصحيح والتاريخي: التعاون الاختياري بين دولتين مستقلتين ومتفاوتتين كثيراً في القوة والنفوذ، على أساس المصالح المشتركة، وهو التعاون الذي يستفيد منه العراق كثيراً إذا أحسنَ استخدامه، بدلاً من الانضواء في السردية المزيفة التي تروجها الفصائل المسلحة عن هذه العلاقة.

فالعراق، رغم هشاشة دولته وضعف اقتصاده وتفكك القرارات السياسية بسبب صراعات الفاعلين السياسيين فيه، ليس بلداً واقعاً تحت الاحتلال الأميركي، والقوات الأميركية لم تأتِ له في عام 2014 من تلقائها، بل على أساس طلب رسمي من الحكومة العراقية، وبالتالي فإن مغادرتها ينبغي أن تكون كذلك بطلب رسمي عراقي وعلى أساس تقييم دقيق للحاجات الأمنية والمصالح العراقية كما تقررها المؤسسات المعنية بعيداً عن الضغوط السياسية والتخويف الميليشياوي. مصالح العراق بجميعه أولاً، وليس مصالح فئات سياسية أو مسلحة فيه، هي التي ينبغي أن تتصدر النقاش العام وقرارات الدولة.

على مدى سنوات، ربما منذ عام 2019 عندما رفعت الفصائل المسلحة شعار إخراج القوات الأميركية بوصفها تمثل احتلالاً أجنبياً، أصبح الحديث عن مثل هذه الحقائق الواضحة والوقائع البديهية والدفاع عن المصالح العراقية في إطار فهم ما تعنيه هذه الحقائق والوقائع أمراً صعباً يُعَرّض القلة النادرة التي تتناولها بصراحة وجرأة للتهم المألوفة بخصوص العمالة والخيانة، ما يؤدي غالباً إلى إسكاتها، أو خفوت صوتها على الأقل.

كانت جلسة العاشر من شباط البرلمانية نقطة تحول لا تزال غير مكتملة بهذا الخصوص، لأنها مثلت أول هزيمة مؤسساتية وعلنية للرؤية الإيديولوجية والمغلوطة على نحو عميق التي تقدمها الفصائل المسلحة ومؤيدوها بخصوص العلاقة العراقية – الأميركية وكيف ينبغي أن تُدار. قبل هذه الجلسة كان هناك الكثير من التحشيد السياسي والإعلامي من جانب الفصائل لصالح تأكيد هذه الرؤية عبر البرلمان وتحويلها الى واقع سياسي ومؤسساتي، خصوصاً بعد عمليات الاستهداف الأميركي لبعض القادة العملياتيين، وليس السياسيين، للفصائل المسلحة، كما في اغتيال أبو باقر الساعدي من “كتائب حزب الله”، في بغداد في السابع من شباط، أي قبل عقد الجلسة البرلمانية بثلاثة أيام. كان الغرض الأصلي لهذه الجلسة التي قُدمت حينها بوصفها استثنائية هو تحويل “القرار التشريعي” الذي أصدره البرلمان العراقي في مطلع كانون الثاني (يناير) 2020 بعد يومين من اغتيال الولايات المتحدة للجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في مطار بغداد في الثالث من ذلك الشهر. نَصَّ القرار على إخراج القوات الأميركية من العراق.

على مدى السنوات التالية كانت الفصائل المسلحة تستخدم هذا القرار كحجة قانونية على عدم شرعية وجود القوات الأميركية في البلد و”تقاعس” الحكومة العراقية عن تنفيذ إرادة البرلمان. لكن هذا القرار التشريعي ليس له أي قيمة قانونية أو صفة إلزامية، فأقصى ما يمكن أن يكونه هو استشارة من السلطة التشريعية تُقدم للسلطة التنفيذية وللأخيرة الحق في أن تأخذ هذه الاستشارة على محمل الجد أو تهملها تماماً. الإهمال هو ما حصل عملياً إذ أهملت الحكومات العراقية المتتابعة تنفيذ هذا القرار التشريعي، الذي كان الحديث عنه يتصاعد في سياق الدعاوى الشعبوية والمزايدات الوطنية التي يحفل بها الحيزان العام والسياسي في البلد، لسوء الحظ. كان على البرلمان أن يُشرِّع وقتها قانوناً يمر بقراءتين وتصويتين على الأقل كي يصبح ملزماً للحكومة وواجب التطبيق. أما القرارات التشريعية فهي مبادرات مستعجلة غالباً تتضمن تصويتاً واحداً في جلسة واحدة ولا تخضع لقراءات وتصويتات برلمانية على مستوى اللجان، وهي في آخر المطاف غير منصوص عليها دستورياً ونفت عنها المحكمة الاتحادية، في قرارات مختلفة لها، طابع الإلزام واعتبرتها، على نحو صحيح، مجرد نصائح برلمانية للحكومة.

في عام 2020، حين انعقاد الجلسة البرلمانية للتصويت على القرار التشريعي رقم 18 الذي أشار إليه المندلاوي مؤخراً في جلسة العاشر من شباط والمتعلق بطرد القوات الأميركية، توفر النصاب الكافي للبدء بتشريع قانون بهذا الصدد، لكن اختار الزعماء الشيعة الذين دعوا للجلسة حينها ألا يذهبوا في هذا الدرب، ربما لأنهم يعرفون جيداً الثمن الباهظ الذي كان العراق سيدفعه إذا شُرِّعَ مثل هذا القانون. لذلك اكتفوا بقرار تشريعي يُستخدم، حسب الحاجة، لأغراض دعائية: للتحشيد والتخوين وتبادل الاتهامات. في جلسة العاشر من شباط الأخيرة، سعت الفصائل، الممثلة في البرلمان هذه المرة، مع حلفائها السياسيين لتشريع مثل هذا القانون وبالتالي إلزام الحكومة قانونياً بإخراج القوات الأميركية. لكن في هذه الجلسة، وخلافاً لتوقعات مبالغ بها أصلاً، لم يستطع دعاة إصدار هذا القانون توفير النصاب اللازم للمضي بالجلسة. بحسب بعض المصادر، حضر الجلسة نحو 105 نواب من أصل 329، أي أقل من ثلث العدد الكلي للنواب، بدلاً من عدد الـ 165 نائباً المطلوب لاستيفاء النصاب للمضي بجلسة تشريعية صحيحة.

تقول هذه الجلسة، بالفشل الذي تضمنته في الحصول على النصاب البرلماني، الكثير عن الضعف السياسي للفصائل المسلحة، وعن قدرة صوتها العالي على التغطية على هذا الضعف وعلى المصالح الحقيقية للعراق كدولة ومجتمع وتقديم مصالحها الفئوية هي، بوصفها مصالح وطنية عراقية عامة.

شاركت قوى سياسية كثيرة، معظمها لا تعلن عن نفسها لأسبابها المختلفة، في صناعة هذه الهزيمة الضرورية للدفاع عن المصالح العراقية. سيكون العراق على طريق التعافي السياسي والمؤسساتي فعلاً عندما تعلن مثل هذه القوى عن مواقفها وتدافع عنها في الحيز العام بوضوح، بدون تردد أو خوف أو مجاملة، بدلاً من الاختباء وراء الكواليس. لا يزال العراق بعيداً عن مثل هذه اللحظة…

شاهد أيضاً

إنصاف «الأونروا»

بقلم: وليد عثمان – صحيفة الخليج الشرق اليوم- لم تكن براءة وكالة الأمم المتحدة لغوث …