الرئيسية / مقالات رأي / هل تجاوزت المسيحية فعلاً تاريخها الطّويل من الخلاف والصّراع؟ (3) الدّينُ يشهرُ السلاح

هل تجاوزت المسيحية فعلاً تاريخها الطّويل من الخلاف والصّراع؟ (3) الدّينُ يشهرُ السلاح

بقلم: حسن إسميك- النهار العربي
الشرق اليوم– في الفترة الواقعة بين الإصلاح الذي يُنسب إلى مارتن لوثر، وتوقيع صلح ويستفاليا الذي غير التاريخ الأوروبي، عبرت القارة -التي لم تصبح عجوزاً بعدُ – بحراً من دماء شعبها على اختلاف كنائسهم وانتماءاتهم الطائفية. فمع حلول عام 1560 أظهر المشهد العام في أوروبا انقسامات غير مسبوقة، لأسباب يتشابك فيها الديني مع السياسي، فالبروتستانتية كانت قد تمددت وانتشرت وحظيت بدعم قادة وأمراء كثر، بناء على دوافع مختلفة لدى كل منهم، ولم تعد محاولات “الإصلاح المضاد” –الذي تبنته الكنيسة الكاثوليكية وتطرقنا إليه في المقال السابق– ذات نفع، فالأمر تجاوز الجانب الديني، وشرارة الحروب كانت قد اشتعلت.

رأينا كيف بلغت المفاسد داخل الكنيسة مستويات غير مسبوقة، ووُظفت الأموال التي جُمعت من الفقراء، عن طريق بيع صكوك الغفران والمناصب الكنسية، في بناء الكنائس وتمويل الأعمال الفنية الفخمة، فتراجعت المكانة الروحية للكنيسة، وازدادت في المقابل قدرة “العامة” على الاطلاع على نصوص الكتاب المقدس نتيجة ازدهار عملية الترجمة والطباعة. وفي الوقت نفسه اتّسعت السلطة السياسية لبعض الملوك مقابل سلطة البابا، فازدادت قوتهم وتمكنوا من بناء جيوش منظمة، ثم انفصل بعضهم بصورة تامة عن سلطة إمبراطورية روما البابوية.

العامل المناخي المُغفَل
إلى جانب ذلك، لعب عامل طبيعي دوراً في الأحداث العنيفة التي نحن بصدد الحديث عنها، رغم أنه لا يُذكر كثيراً في المرجعيات التي تتحدث عن حروب أوروبا الدينية، هذا العامل هو ما يعرف بفترة العصر الجليدي الصغير، حيث انخفضت حرارة الأرض درجات عدة، ما أثر على المحاصيل الزراعية، فانتشرت المجاعات وتدهورت الأحوال الاقتصادية والاجتماعية بشدة. ففي إنكلترا مثلاً ارتفعت أسعار الحبوب بنسبة بلغت 630% على مدار القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر.

بدأ هذا التغيُّر المناخي منذ القرن الرابع عشر، لكنه أصبح أكثر وضوحاً بين منتصف القرن السادس عشر وأوائل القرن الثامن عشر، وكانت أقسى فتراته من حوالى عام 1600 حتى عام 1640، وهي العقود التي شهدت أشهر الحروب الدينية وأكثرها تدميراً على الإطلاق في أوروبا: حرب الثلاثين عاماً. واللافت أنّ معظم الدول التي تأثرت بهذا التغيير المناخي من الصين وصولاً إلى الإمبراطورية العثمانية عانت خلال تلك الفترة من حروب أهلية وغزوات مدمرة.

نتيجة لتلك المجاعات، وكما يحدث في الأزمات الكبرى، ازدادت سيطرة الأثرياء من الأمراء ومُلَّاك الأراضي والتجار، مع تهميش الفلاحين والعمال وازديادهم فقراً، الأمر الذي أسهم إلى حد بعيد في اندلاع ثورة الفلاحين في وقت مبكر (1524-1525) واجتياحها إمارات بافاريا وتورينغن وشوابيان في ألمانيا، وهي الثورة التي وقف مارتن لوثر ضدها، كما ذكرنا في المقال السابق، وانتهت بمذبحة راح ضحيتها أكثر من 100 ألف فلاحٍ.

لقد حملت تلك الحروب صفة “الدينية” لأن الانقسام الديني كان العامل الأساس في اندلاعها واستمرارها، لكن الجانب السياسي كان حاضراً وبقوة في معظم معاركها. وفي أوقات وأماكن كثيرة لم يكن طرفا القتال واضحين تماماً، فالجماعات البروتستانتية الحديثة النشأة لم تكن على وفاق، وكثيراً ما كانت جماعات تابعة للكنيسة الكاثوليكية تجد نفسها منخرطة في القتال إلى جانب أخرى بروتستانتية ضد أخرى كاثوليكية والعكس بالعكس. فقد كانت الجغرافيا والسياسة والاقتصاد عوامل مهمة في تحديد الأطراف المتحاربة، وهذا ما يغلب أن يكون طبيعياً في أي صراع.

ولأن استعراض الحروب الدينية الأوروبية ليس بالأمر الهين، نظراً الى كثرتها وتشابكها وتزامنها، لذلك كان تقسيمها بحسب البلد الذي اندلعت فيه ومنه الطريقة الأوضح والأقل تعقيداً، ولنبدأ من ألمانيا بلد مارتن لوثر الأم، والتي بدأت تظهر فيها مشاعر قومية قوية دفعت أمراءها –المتزايدي القوة– إلى رفض سيطرة سلطة أجنبية (مثل البابوية) على شؤونهم.

ألمانيا.. من ثورة الفلاحين إلى أوغسبورغ
قامت “ثورة الفلاحين” عام 1524 تحت تأثير الأفكار البروتستانتية الإصلاحية التي وجد فيها الفلاحون سبيلاً للخلاص من هيمنة الطبقة الأرستقراطية (الكاثوليكية). ويعدُّ توماس مونتسر أبرز دعاة هذه الثورة، وهو من أتباع لوثر لكنه طوّر فكراً أكثر راديكالية يرى فيه أن التغيير الحقيقي لا يحدث إلا من خلال ثورة قيادية روحية وليس ببعض الإصلاحات الدينية الرسمية. وقاد حركات تمرد عدة، وكتب منشورات تحثُّ على المقاومة، ما أدى إلى اندلاع الثورة فصارت أول احتجاج يتحول إلى العنف بعد انتشار الإصلاح الديني.

كانت مطالب الفلاحين سياسية واجتماعية ضمن إطار الدين، إلا أنّ مارتن لوثر أدان تلك الثورة واصفاً الفلاحين باللصوص وثورتهم بـ “عمل الشيطان”. وربما يعود ذلك الى تطرف مونتسر، أو لأن لوثر كان قد نفاه في وقت سابق. في المحصلة لم يستطع الفلاحون -القليلو الخبرة والسلاح- الصمود أمام الجيش الألماني وانتهى التمرد بمقتل عشرات الآلاف منهم.

ومع حلول عام 1531، وجد الأمراءُ في شمال ألمانيا، وعلى رأسهم فيليب الأول، والمدنُ اللوثرية بقيادة يوهان فريدرش أنّ مصلحةً مشتركة تجمعهم للوقوف في وجه الإمبراطور تشارلز الخامس، فشكلوا رابطة شمالكالدن (نسبة إلى بلدة شمالكالدي) التي ساعدت في انتشار اللوثرية في عموم ألمانيا. وما لبثت أن اشعلت الحرب مع الإمبراطور الروماني، مستفيدة من أنه كان عائداً لتوه إلى ألمانيا من الحرب الإيطالية بعد توقيعه معاهدة الكاريبي، وبدأ بتشكيل تحالفات ضمت أمراء لوثريين وأحد أنسباء فريدرش، ومعنى ذلك أنه قد بدأ التحضير للحرب. من جهة ثانية كان مارتن لوثر قد توفي منذ مدة قصيرة، ما أزاح من طريقهم عقبة رئيسة في اتخاذ قرار الحرب، وهو الذي كان يعارضها دائماً.

ظنَّ تشارلز بعد انتصاره في معركة موهلبيرغ أنه أعاد السلام للإمبراطورية، لكن أعمال العنف لم تتوقف حتى عام 1552 حين تمت التسوية وعقدت معاهدة “أوغسبورغ” عام 1555 التي نصت على مبدأ مشهور تم تلخيصه في العبارة اللاتينية (cuius regio, eius religio) أي “في أرض الأمير، دين الأمير”. يعني ذلك أن كل أمير يختار الطائفة التي يريد (كاثوليكية أو بروتستانتية) وعلى أساس اختياره يتم تحديد دين جميع رعاياه، أما من يرغب بدين غير دين أميره فعليه أن يختار إما الهجرة إلى إمارة تتوافق مع طائفته أو يترك نفسه عرضة للاضطهاد أو السجن وربما الإعدام!

عُدَّت تلك المعاهدة اتفاقاً يضمن الحرية الدينية، إلا أنها في الجوهر تضمن فقط حرية الحكّام والأمراء في اختيار طائفتهم وطائفة أتباعهم من دون أن يتمكن هؤلاء الأتباع من تقرير مصيرهم حقاً. استمر العمل بتلك الاتفاقية حتى اندلاع حرب الثلاثين عاماً سنة 1618، وتجددت مع صلح ويستفاليا إنما بصيغة أخرى.

سويسرا.. البروتستانتية بالقوة
ظهرت الكالفينية (نسبة إلى المصلح جون كالفن) في جنيف منذ أربعينات القرن السادس عشر، لكن الإصلاح الكنسي كان قد وصل الى سويسرا قبل ذلك بسنوات، ففي زيورخ تحديداً بدأت عملية إعادة تنظيم الكنيسة بقيادة هولدريخ زوينجلي منذ عام 1523، وهي عملية قادت إلى ما عُرف بحربي كابيل الأولى والثانية التي قُتل فيها زوينجلي. في واقع الأمر كانت كانتونات برن وزيورخ تتمتع بجيوش قوية، وقد استخدمت قوتها تلك لفرضِ البروتستانتية على مدن أخرى -جنيف ولوزان وباي دو فود وغيرها- والحفاظِ على الإصلاحات فيها.

بدا اللاهوت الخاص بالكالفينية التي ظهرت في سويسرا لاحقاً، وكأنه مصمم من أجل الحرب والقتال، وقد ذكرنا سابقاً أنها كانت أكثر تشدداً من ناحية التعاليم من اللوثرية، ورأى الكالفينيون أن الله هو من يختار “المصلحين” لقيادة عملية الإصلاح، ولا دخل لحكم الأمير في المنطقة بذلك، وربطوا بين حرية العبادة وحرية الضمير متجاوزين الهويات الإثنية والوطنية، ورأوا في بابا روما تجسيداً للمسيح الدجال، وعدّوا الحرب على أتباعه جزءاً من حرب نهاية العالم ضدَّ قوى الشر!

ونتيجة لذلك لم توافق الكالفينية على الاتفاقات الإقليمية التي أنهت الحرب في أوروبا بموجب معاهدة أوغسبورغ السابقة، فاستمرت الصدامات والاضطرابات في القارة. وقد كانت عقيدة الكالفينيين المتشددة سبباً أعطى اتباعها قوة وبأساً شديدَين، وهكذا استمرت الحرب 90 عاماً أخرى بعد 1560.

فرنسا: مذابح ثم وحدة.. دينية أم سياسية؟
كانت فرنسا وإسبانيا أقوى ممالك أوروبا وأكثرها سكاناً، تمتعت كل منهما بجيش كبير وباقتصاد ديناميكي. رغم ذلك شهدت فرنسا مجموعة من أعنف الصراعات الدينية وأكثرها دموية على امتداد 40 عاماً، وحتى فترات “السلم” فيها لم تخلُ من أعمال العنف التي بلغت حدَّ المذابح الجماعية. فرغم عوامل القوة، كان نظامها الملكي في ظل حكم أسرة ڤالوا ضعيفاً، وكان بعض النبلاء الفرنسيين أقوى من الملك وأكثر تأثيراً بما يمتلكونه من جيوش ضخمة.

شكّل الهوغونوت عام 1560 (البروتستانت الفرنسيون) نحو 10% من شعب فرنسا، تمركز معظمهم في الجنوب قريباً من نافار وهي مملكة صغيرة مستقلة تقع بين فرنسا وإسبانيا كانت قد تبعت البروتستانتية. مثَّل الهوغونوت الطبقة الوسطى المثقفة في فرنسا المنقسمة دينياً إلى مجموعتين تتبعان لعائلتين اثنتين قويتين: عائلة جيز Guise الكاثوليكية المتعصبة المدعومة من ملك إسبانيا، وعائلة بوربون Bourbon وهي من الهوغونوت. وخوفاً من امتداد تأثير هذه الأخيرة قام آل جيز بإنشاء ميليشيا مسلحة تضم رهباناً من الكاثوليك، قاموا بارتكاب مذبحة بحق مجموعة من الهوغونوت عام 1562، فاندلعت الحرب إثرها.

كان الملك الفرنسي شارل التاسع طفلاً حين بدأت الحرب، وسعت والدته كاثرين دي ميديتشي –التي كانت الحاكمة الفعلية– لإنهاء الصراع، فدعت عام 1572 أمير الهوغونوت هنري نافار إلى باريس للزواج من أخت تشارلز (مارغريت دي ڤالوا). قدم نافار بالفعل مع 2000 من أتباعه من دون سلاح وتم الزفاف من دون موافقة البابا، لكن دوق عائلة جيز الكاثوليكية تمكن من إقناع الملك شارل بأن موت هنري نافار هو ما سينهي الحرب، وهكذا شنت القوات الكاثوليكية مذبحة في يوم القديس بارثولوميو في 24 آب (أغسطس)، قُتل فيها أكثر من 2000 بروتستانتي ونجا زعيمهم نافار.

أدت تلك المجزرة إلى تفاقم الصراع الديني في فرنسا، وأدخلتها سنوات طويلة من الحرب والدم، إذ تلتها 12 مذبحة أخرى في أنحاء متفرقة من فرنسا راح ضحيتها أكثر من 7000 آلاف شخص، ويقال ان البابا الذي كان قد رفض محاولات السلام مع الهوغونوت قد أعطى 100 قطعة نقدية ذهبية مكافأة للشخص الذي نقل إليه خبر الحرب التي اشتعلت في فرنسا!

أما نافار، فقد تمكن من الهرب نحو الجنوب ليعيد حشد القوات البروتستانتية. في هذه الأثناء كان هنري (الأخ الأصغر للملك شارل) قد تولى حكم فرنسا بعد موت أخيه متأثراً بمرضه عام 1574. استؤنفت الحرب عام 1576 بين ثلاثة قادة يحمل كلّ منهم اسم هنري؛ زعيم الرابطة الكاثوليكية (هنري جيز) وملك فرنسا (هنري الثالث) وزعيم الهوغونوت (هنري نافار)، كان الأولان كاثوليكيين يكرهان بعضهما بعضا. وبعد اغتيالهما لم يبقَ سوى هنري نافار ليرأس عرش فرنسا نتيجة زواجه من الأسرة المالكة وعدم وجود وريث غيره، وهكذا أصبح البروتستانتي ملكاً لفرنسا الكاثوليكية تحت اسم هنري الرابع، وسرعان ما أدرك أنه لن يستطيع حكمها إلا إذا تحول إلى الكاثوليكية، وهذا ما حدث!

نتيجة شعبيته بين الطرفين، أصدر هنري الرابع عام 1598 مرسوم نانت الذي سمح للهوغونوت ببناء دولة لهم داخل فرنسا مع مدن مسورة وجيش خاص، لكنهم مُنعوا من دخول باريس والمشاركة في حكومتها، ورغم أن هنري الرابع اغتيل بعد ذلك على يد أحد الكاثوليكيين، لكنّ مرسوم نانت كان قد وضع حجر الأساس لوحدة فرنسا بناء على المصالح السياسية لا على أساس التسامح الحقيقي بين الطرفين.

قضى في الحروب الدينية الفرنسية نحو 3 ملايين شخص، وحتى بداية القرن السابع عشر كانت الأراضي الفرنسية لا تزال ساحة للعنف بين الهوغونونت الذين دعمتهم القوات الإنكليزية والألمانية الإسكتلندية والهولندية والسويسرية البروتستانتية، والكاثوليك المدعومين من القوات الإسبانية والإيطالية والألمانية والسويسرية الكاثوليكية.

هولندا.. الإصلاح والجنون الإسباني
عاشت هولندا بدورها حرباً طويلة عُرفت بحرب “الثمانين عاماً”، بدأت عام 1567 وتوقفت بعدها سنة واحدة، لتعود من جديد مع بداية عام 1572، ولتعيش هولندا نحو 37 عاماً من الحرب المستمرة، تلتها هدنة صمدت 12 عاماً، تجددت بعدها الصراعات عام 1621. لم تكن تلك الحرب دينية بقدر ما حملت أبعاداً سياسية واقتصادية -حتى أنه في لحظة من الصراع كانت جماعات من اللوثرية والكالفينية والكاثوليكية تقف معاً ضد إسبانيا- لكنّ الدين كان بالتأكيد سبب استمرارها كل تلك المدة.

حكم آل هابسبورغ الإمبراطورية الرومانية المقدسة، كما حكموا أراضي أخرى في أوروبا، وسيطروا على إسبانيا في القرن السادس عشر، فكانوا أقوى عائلة في أوروبا. كان فيليب الثاني هو الملك الإسباني آنذاك، أما منافسه الأساسي في المشهد العام فهم سلالة البوربون التي حكمت فرنسا بعد تولي هنري الرابع كما رأينا سابقاً.

كان فيليب هذا كاثوليكياً متعصباً ومستبداً، ولم يقتصر اضطهاده على البروتستانت بل كان قاسياً مع جماعات عدة مثل الموريسكيين، وهم أحفاد المسلمين من سكان الأندلس، وأجبرهم على تسليم أطفالهم إلى مدارس كاثوليكية، كما اضطهد جماعات الكريبتوز (اليهود السابقين)، ولاحقهم عبر محاكم التفتيش متهماً إياهم بالزندقة وممارسة اليهودية سراً.

ورغم فرض سيطرته على إسبانيا، لم يستطع فيليب فعل المثل في هولندا التي ورثها كجزء من ممتلكات أسلافه. كانت هولندا تتمتع بمزيج اجتماعي متنوع، وأوضاع اقتصادية جيدة ومستقرة تقوم على التجارة الخارجية بالدرجة الأولى، لكنّ محاولات فيليب المستمرة للتدخل في شؤونها أشعلت الصراع بين الكالفينيين والكاثوليك فيها، الأمر الذي وجد فيه فيليب ذريعة لإرسال قواته وإقامة محاكم تفتيش لإحكام السيطرة عليها، وكانت المحكمة العسكرية التي أنشأها دوق ألبا الإسباني في هولندا تُعرف بين السكان باسم “مجلس الدم” بسبب شدّة عنفها، لأجل ذلك سرعان ما أدت ممارسات الدوق الوحشية تجاه البروتستانت إلى حشد مقاومة شعبية ضده.

بقيادة أمير هولندي يدعى ويليم الصامت، بدأ الهولنديون شن هجمات على القوات الإسبانية. حاول فيليب احتواء الموقف بأن ألغى “محكمة الدم”، واستدعى الدوق الذي يرأسها، لكنه وقع في خطأ فادح حين ترك قواته الموجودة في هولندا من دون أجور، فتمردت تلك القوات وبدأت بنهب المدن الهولندية الموالية لإسبانيا. أطلق الهولنديون على هذه الأعمال اسم “الجنون الإسباني”، جنونٌ سيدفع فيليب ثمنه غالياً، إذ سرعان ما أعلنت المقاطعات الشمالية لهولندا استقلالها عن إسبانيا، وبدأت قوافل الكالفينيين بالتدفق نحوها، وأصبحت عام 1588 جمهورية مستقلة بروتستانتية حليفة لإنكلترا الأنغليكانية. ورداً على ذلك جهزت إسبانيا حملة عسكرية ضخمة كلفتها الكثير، ورغم أن السبائك الذهبية كانت تتدفق على إسبانيا من العالم الجديد، إلا أن المملكة عانت من ديون هائلة كان معظمها بسبب الحرب في هولندا، والتي لم يتوقف الصراع فيها فعلياً حتى عام 1648.

إنكلترا.. إصلاح غير مقصود
كان الملك الإنكليزي هنري الثامن أول ملك أوروبي ينكر سلطة البابوية، ويصل به الأمر الى حدَّ تنصيب نفسه “الرئيس الأعلى” للكنيسة في إنكلترا. يصور التاريخ هنري كصانع “إنكلترا الجديدة ذات السيادة الكاملة” ووصلت تأثيرات انفصاله ذاك إلى المستعمرات الإنكليزية على الضفة الأخرى من الأطلسي، أي أميركا.

ورغم تزامن هذا الانفصال مع موجة الإصلاحات الكنسية في أوروبا، فإن الإصلاح لم يكن هدف هنري الحقيقي، اذ تشير المراجع إلى أنه حين توفي كان الإصلاح في إنكلترا قد بدأ للتوّ، والى أن انفصاله عن سلطة البابا لم يكن بدافع ديني، بل نتيجة أسباب شخصية بحتة، فقد كان هنري تزوج من كاثرين أراغون أرملة أخيه آرثر بهدف إنجاب وريث شرعي (كان لديه الكثير من الأبناء غير الشرعيين). تطلّب ذلك الزواج إعفاءً بابوياً خاصاً مُنح للحكومة الإنكليزية. لكنّ ذلك الزواج لم يسفر إلاّ عن ابنة –أصبحت لاحقاً: الملكة ماري الأولى.

اعتقد هنري أن زواجه من زوجة أخيه مخالف للقانون الإلهي، ولذلك لم ينجُ لهما أي طفل (تقول رواية أخرى إن شهواته ورغبته بالزواج من أخرى هو سبب سعيه للطلاق من كاثرين). لم يحصل هنري على موافقة الكنيسة، ولا على موافقة الكاردينال وولسي الذي كان رئيس وزراء الملك منذ عام 1514، فلم يكن من هنري إلا أن قام باستبداله من دون موافقة بابا روما.

دعا هنري برلماناً جديداً في عام 1529 الى دعم مساعيه في الحصول على الطلاق، سُميّ ببرلمان الإصلاح. وجّه هذا البرلمان اتهامات إلى رجال الدين الإنكليز بالفساد والابتزاز. وأدت القوانين التي تم تمريرها من قبل البرلمان الجديد إلى تغيير العلاقة بين إنكلترا والكنيسة الكاثوليكية إلى الأبد، فمثلاً أصدر البرلمان قانوناً نقل فيه ملكية جميع الأديرة في إنكلترا إلى التاج، ما كان بمنزلة ضربة كبيرة للكنيسة الكاثوليكية، اذ كانت الأديرة مصدراً رئيساً للدخل والقوة. وهكذا تحول الإصلاح الإنكليزي إلى قضية سياسية أكثر منها لاهوتية.

لم يثمر زواج هنري الثاني من آن بولين عن مولود ذكر (أنجبه في زواجه الثالث)، لكنه أثمر عن ولادة إليزابيث الأولى التي كانت متأثرة بالأفكار البروتستانتية، والتي ورثت العرش بعد أخويها غير الشقيقين إدوارد وماري عام 1558، كان إدوارد قد بدأ في إرساء دعائم كنيسة بروتستانتية خلال فترة حكمه القصيرة، ولكن أخته الملكة ماري أعادت البلاد إلى الكنيسة الكاثوليكية.

ولإنهاء تلك الانقسامات الدينية توصلت إليزابيث إلى ما عرف في ما بعد بـ “التسوية الدينية”، وأصدرت في عام 1559 قانونين: الأول جعل منها “الحاكم” الأعلى للكنيسة، وتوحي صفة “الحاكم” بأن إليزابيث لن تتصرف بديكتاتورية والدها نفسها حين أعلن نفسه “رأس الكنيسة”. أما القانون الثاني فقد جعل المسيحية البروتستانتية الديانة الرسمية لإنكلترا، لكنه وضع قواعد للممارسات والعبادات الدينية احتفظت ببعض التقاليد الكاثوليكية ضمن كتاب موحد للصلوات، ورغم ذلك فإن هذا لم يرضِ الكاثوليك بالمطلق.
عاشت إنكلترا عصراً ذهبياً مع إليزابيث، الملكة الذكية الشجاعة، لتعود البلاد بعد وفاتها وتنخرط في سلسلة حروب أهلية أطلق عليها اسم حروب الممالك الثلاث (إنكلترا واسكتلندا وإيرلندا) امتدت بين عامي (1642-1651).

كانت الكنائس والطوائف التي نشأت في أوروبا خلال فترات الإصلاح والحرب الأهلية هي أساس التنوع المذهبي في الولايات المتحدة الأميركية، والتي تأسست بداية من 13 ولاية جميعها كانت مستعمرات إنكليزية، ما حتّم عدم وجود كنيسة وطنية واحدة داخل الدولة الناشئة، وأوجد الحاجة لإقرار قوانين للحرية الدينية.

“مأساة أوروبا”.. حرب الثلاثين عاماً
قبل اندلاع الحرب التي تعدُّ الصراع الديني الأكثر تدميراً في التاريخ الأوروبي، سرت هدنة غير مستقرة بين الإمبراطور الكاثوليكي فرديناند الثاني (1578-1637) الذي كان يتمتع بسلطة محدودة على أراضٍ كانت بالاسم فقط تابعة للإمبراطورية، كهولندا مثلا، وبين العديد من الأمراء البروتستانت في الشمال، رغم استمرار الحروب التي كانت مستعرة في المناطق الحدودية. انهارت تلك التسوية الضعيفة تماماً عندما حاول الإمبراطور فرديناند الثاني اتخاذ إجراءات صارمة ضد البروتستانت الكالفينين في بوهيميا (التشيك حالياً). فأرسل مسؤولين إلى براغ لمطالبة البرلمان بالتخلي عن البروتستانتية، لكن طلبه قوبل بالرفض، بل وقام أعضاء من البرلمان بإلقاء المسؤولين من نافذة المبنى الذي كانوا يجتمعون فيه، في حادثة تعرف باسم “الرمي من النافذة”.

وبعد سلسلة من الهجمات المتبادلة، وجد الإمبراطور الكاثوليكي ومجموعة من الأمراء التابعين له أنفسهم في مواجهة الأمراء البروتستانت الألمان –وعلى رأسهم فريدريك من بالاتينات– والملك الدنماركي المتحالف معهم. كانت الانتصارات في البداية من نصيب القوات الكاثوليكية التي أفقدت بوهيميا 50% من سكانها ما بين قتيل وفارّ، وتمكنت القوات الكاثوليكية من احتلال الدنمارك فترة وجيزة. نشوة هذه الانتصارات دفعت الإمبراطور فرديناند لإصدار مرسوم الاسترداد عام 1629 للمطالبة بإعادة جميع أراضي الكنيسة التي تم الاستيلاء عليها منذ الإصلاح، وذلك بعد أن تراجع عن سياسات التسامح المحدود التي سبق وأقرّتها اتفاقية أوغسبورغ، وقام بغزو مقاطعات وراء الراين بشكل انتقامي مُخلّاً بتوازن القوى في الإمبراطورية.

لكنّ القوات البروتستانتية بقيادة ملك السويد غوستافوس أدولفوس، تمكنت من غزو شمال ألمانيا، ثم سارت عبر الإمبراطورية مقوضةً انتصارات الإمبراطور، قبل أن يُقتل في إحدى المعارك عام 1632مع قائد الجيوش الكاثوليكية، وتستعر الحرب التي تحولت في النهاية من صراع ديني إلى سياسي بين أسرتي هابسبورغ (عائلة الإمبراطور الروماني) في النمسا وإسبانيا من جهة، والبوربون الحاكمين في فرنسا من جهة ثانية.

دخلت فرنسا الحرب فعلياً عام 1536، وعلى مدار الثلاثة عشر عاماً التالية، كانت الحرب قد شملت جميع أنحاء أوروبا، بتمويل جميع الأمراء والنبلاء فيها، وفي الفترة من 1618 إلى 1648، كان الانخفاض في عدد سكان الإمبراطورية قد بلغ قرابة 8 مليون نسمة، ومضت عدة عقود قبل أن يتمكن اقتصاد أوروبا من التعافي.

في عام 1648، كانت كل الأطراف قد أُرهقت تماماً من القتل والدمار والديون، فقرروا حينها البدء في مفاوضات سلام عبر الرسائل، بعد أن رفضت الوفود التواجد في مكان واحد. أثمرت هذه المفاوضات عن توقيع صلح ويستفاليا الشهير، والذي سأفرد له ولنتائجه مقالاً لاحقاً. ورغم عدم وجود طرف “منتصر” بالمعنى الحرفي، فقد استفاد الكاثوليك من تلك الاتفاقيات، وذلك حين تراجعت نسبة البروتستانت في أوروبا الغربية والوسطى من نحو النصف عام 1590 إلى الخمس فقط في عام 1690.

يرى البعض أن إسبانيا كانت أكبر الخاسرين في تلك الحرب، فقد خرجت مثقلة بالديون، ولم تتمكن من اللحاق ببقية الدول الأوروبية اقتصادياً، بخاصة فرنسا وإنكلترا وهولندا التي اعتمدت على التجارة في الوقت الذي حافظ فيه الإسبان على نظامهم القائم على الزراعة.

لماذا استمرت الحروب كل تلك المدة؟
كانت الاعتقاد الذي ساد بين جميع الطوائف المتحاربة أنها تخوض معركة بين الخير والشر وهو السبب الأساس لاستمرار تلك الحروب عقوداً طويلة، وقد يكون هذا سبب الحروب الطائفية في كل مكان وزمان. إذ لدى كل طرف قناعة راسخة بأنه يمتلك “الدين الحقيقي”، وأنه يقاتل باسم الله ونصرة له، وأن الطرف الآخر هم أعداء “الحق”. هذا الإحساس المتزايد بالصلاح والأحقية لدى كل طرف، جعل من الصعب التنازل أو الاعتراف بالهزيمة، حتى عندما كانت الأمور تسير ضدهم. أيضاً فقد وقف ذلك الاعتقاد حجر عثرة في طريق أي من التسويات التي لم تحدث إلا بضغط عسكري على طرف ما، لا لأنه اقتنع بحق الطرف الآخر وحريته الدينية.

الكالفينيون مثلاً كانوا ينشرون بين مقاتليهم فكرة تفيد بأن “معجزة إلهية” في طريقها للحدوث يخصهم الله بها فيكون النصر حليفهم. كانت هذه الفكرة من القوة بحيث جعلت قوافل من المحاربين يتمسكون بحربهم حتى في أعتى النكسات. وهذا ما حدث على سبيل المثال مع وليام أوف أورنج، قائد الثورة الهولندية الذي أعرب بعد هزيمته عن حزنه وعدم يقينه، لكنه عاد وصرح بأنه يعتقد أن “إرادة الله” ستترسخ في النهاية.

قاد إيمان كل طرف بأن الآخرين أعداء الله، إلى تصويرهم كمخلوقات غير بشرية، وهذا يعني أن إزهاق أرواحهم عملٌ صالح لا يخالف الأخلاق، وأن قتل الأشخاص في الحروب العادية مختلف عن قتلهم في الحروب الدينية فهم ليسوا إلا أعوان للشيطان! كما يشير الكاتب الإسباني دييغو دي سافاديرا إي فاخاردو الذي عاصر تلك المرحلة.

أعطت كل تلك الحروب والخسائر والدمار الذي تسببت به مفعولاً عكسياً بالنسبة الى الدين المسيحي، إذ تراجعت مستويات الإيمان وأعداد المؤمنين بصورة كبيرة نظراً الى ارتباط الدين بالقتل والترهيب في عقول أجيال متتالية، وترافقت نهاية الحروب تلك مع نهضة علمية وفكرية على جميع المستويات في أوروبا ساهمت في تقليل أهمية الإيمان والغيبيات بالعموم، وآذنت ببدء عصر التنوير الأوروبي، كرد فعل ضد التعصب الديني، وقيام حركة فكرية عمادها العقلانية والإنسانية والتسامح.
حال الكنيسة المسيحية بعد معاهدة وستفاليا، ثم على امتداد عصر التنوير الأوروبي، وعلاقتها برجالاته وأفكارهم، ستكون موضوع الجزء القادم.

شاهد أيضاً

الأردن: معركة محور التّطرف!

بقلم: محمد صلاح – النهار العربي الشرق اليوم- ليس سراً أن مصر والأردن خسرا كثيراً …