الرئيسية / مقالات رأي / الانسحاب الأمريكي من العراق: حين تلتفّ الكلمات على الوقائع

الانسحاب الأمريكي من العراق: حين تلتفّ الكلمات على الوقائع

بقلم: عقيل عباس – صحيفة النهار العربي

الشرق اليوم– في الأسابيع القليلة الماضية، بدأت تبرز في الخطاب الرسمي العراقي والتغطيات الصحافية عبارات تتحدث عن “إنهاء مهمة قوات التحالف الدولي لمحاربة داعش والانتقال إلى علاقة ثنائية” أو “شراكة أمنية”. ترد في البيانات الأميركية لغة شبيهة. مع ذلك، يُوضع الاستخدام العراقي لهذه اللغة في إطار جدولة انسحاب القوات الأميركية من العراق، فيما تغيب إشارات كهذه في البيانات الأميركية.

تستثمر الحكومة العراقية في اللغة كثيراً لإبراز أن ثمة تحولاً حقيقياً سيحصل في الواقع: عملية تفاوضية مهمة تجري بين الطرفين، العراقي والأميركي، تفضي، في آخر المطاف، إلى انسحاب القوات الأميركية من البلد. لا يعبّر هذا الموقف عن الحقيقة بل عن الاضطرار الذي تواجهه الحكومة بعدما تحولت قضية وجود القوات الأميركية في البلد إلى ما يشبه الابتزاز والمزايدة شبه الدائمين عبر سعي فئة محدودة من العراقيين، الفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران، لاحتكار قرار إخراج القوات الأميركية من البلد، بغض النظر عن المصالح الوطنية العراقية بهذا الصدد. بسبب هذا الاضطرار، كَثُرَ الحديث عن التحالف الدولي، ليُصوَّر إنهاء مهماته على أنه إنهاء لوجود القوات الأميركية في البلد. الأمران مختلفان ولا يشيران إلى الأمر ذاته.

نشأ التحالف الدولي لهزيمة “داعش” في العراق وسوريا في عام 2014 بمبادرة وزعامة أميركية في عهد إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما. ارتبطت بدايته بسيطرة تنظيم “داعش” على مدينة الموصل العراقية، وتمددها السريع في البلد وانهيار معظم الجيش العراقي. حينها اقترح مسؤولون أميركيون على الرئيس أوباما استخدام سلاح الجو الأميركي لردع التنظيم، فكان رده أنه يريد شيئاً يقوم على أسس أشد رسوخاً: إنشاء تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة لهزيمة التنظيم الإرهابي بدلاً من جهد أميركي أحادي. بُعث على أثرها مسؤولون أميركيون إلى دول كثيرة شرق أوسطية وأوروبية وغيرها لمفاتحتها لدخول هذا التحالف. كانت الاستجابة إيجابية وسريعة، خصوصاً في ظل الخطر المتصاعد الذي مَثله التنظيم لدول كثيرة، بينها أوروبية وشرق أوسطية. أسّسَ التحالف شرعيته القانونية بالاستناد إلى قرارات دولية عدة، أصدرها مجلس الأمن الدولي، أبرزها بين عامي 2014 و2016 لمكافحة التنظيم الإرهابي. كان الأهم بينها القرار 2178 في عام 2014 الذي طالب الدول الأعضاء ببذل كل الجهود الممكنة لمنع تجنيد الإرهابيين وتنقلهم وقطع طرق التمويل عنهم، والقرار 2249 في عام 2015 الذي اعتبر تنظيمي “داعش” و”جبهة النصرة” تهديداً جدياً للسلم والأمن الدوليين وعلى الدول الأعضاء استخدام ما تيسر لها لمواجهتهما وهزيمتهما، فضلاً عن القرار

2015 في العام نفسه لمنع تمويل الجماعات الإرهابية من خلال تهريب وبيع المواد الثمينة كالآثار والنفط (لا تزال الولايات المتحدة تستخدمه كأحد التبريرات لوجود قوات لها في سوريا حيث لا يزال تنظيم “داعش” يحاول السيطرة على حقول نفط في شمال شرق سوريا). صدرت هذه القرارات الأممية تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ما يعني أنها ملزمة التطبيق من خلال أدوات وآليات تولت تأسيسها المنظمة الدولية عبر تعاون الدول الأعضاء فيها.

على أثر هذه الجهود الأميركية، انضم للتحالف نحو 86 دولة لم تكن مساهماتها كلها في التحالف عسكرية مباشرة، فكثير منها بذلت جهوداً استخبارية في سياق التشارك بالمعلومات لتتبع التنظيمين الإرهابيين، وأخرى مصرفية لمنع تهريب الأموال وتبييضها لمصلحة الجماعات الإرهابية، فضلاً عن مشاركات أخرى تتعلق بتوفير تسهيلات لوجستية لنقل القوات والمعدات والأجهزة وغيرها مرتبطة بتوفير التدريب للقوات التي قاتلت “داعش” كالجيش العراقي و”قوات سوريا الديموقراطية”. ثم هناك مساهمات أخرى طبية وإنسانية الطابع تولتها بعض دول التحالف مثل إعادة تأهيل ضحايا الإرهاب وتوفير العلاجات الصحية المناسبة لهم وسواها كثير.

رسمياً، احتاج العراق أن يوقع مذكرات تفاهم ويقدم طلبات ويعطي موافقات وغيرها من الآليات الرسمية المعتمدة بين الدول كي يكون جزءاً من هذا التحالف ويستفيد من خدماته عبر المشاركات والمساعدات التي بمستطاع دوله الأخرى تقديمها. الأبرز بينها بالطبع جلب القوات الأميركية للبلد، ثم هناك مثلاً بعثة حلف الناتو، التي قدمت خدمات استشارية وتدريبية للجيش العراقي، والطائرات التي بعثتها إسبانيا لدعم طيران الجيش العراقي في مهمات النقل والحماية، فضلاً عن خدمات الاستطلاع الجوي ذات الطابع الاستخباري التي وفرها الفرنسيون لجهاز مكافحة الإرهاب العراقي وسواها من المساهمات غير العسكرية كالتحقيقات في جريمة الإبادة الجماعية ضد الإيزيديين وجهود التأهيل الخاصة بهم. عبر الكثير من مثل هذه المساهمات العسكرية المختلفة والمُنسقة، لعبَ هذا التحالف دوراً حاسماً في هزيمة تنظيم “داعش” في العراق وسوريا، خصوصاً بين عامي 2015 و2019.

في نسخته الأميركية يُطلق على هذا التحالف تسمية “العزم الصلب”. حتى بعد هزيمة تنظيمي “داعش” و”جبهة النصرة”، لا تزال القوات الأميركية تنتشر في العراق وسوريا، بأعداد أقل بكثير مما كانت عليه في السابق في ذروة القتال ضد “داعش” لضمان ألا يعيد التنظيم ترتيب نفسه ويبرز من جديد كقوة قادرة على احتلال أراض وحكمها. في الوقت نفسه تراجعت الكثير من المساهمات العسكرية المباشرة لدول التحالف، كالمساهمتين الإسبانية والفرنسية، وبقيت مهمات استشارية وإنسانية واستخبارية.

في ضوء كل هذا، ما الذي يعنيه الحديث بخصوص إنهاء مهام التحالف الدولي والتحول إلى علاقة ثنائية، أو شراكة أمنية أميركية – عراقية، كما هو الحديث السائد الآن؟ في الحقيقة، لا يعني هذا الحديث تغييرات كثيرة ومهمة، وإنما ستحدث تغييرات في شكل الأشياء وليس في جوهرها. فمثلاً، بدلاً من أن تواصل بعثة الناتو مهامها التدريبية والاستشارية في العراق في إطار التحالف الدولي، يمكنها أن تمارس المهام نفسها في ظل تفاهم ثنائي بين العراق والناتو. ينطبق الأمر ذاته على الوجود العسكري الأميركي في العراق، فبدلاً من استمراره في إطار التحالف الدولي بالاستعانة بقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، يمكنه أن يستمر على أساس ثنائي، أميركي – عراقي، متوفر في الأصل.

حسب مصادر مختلفة، أميركية وعراقية، لا يريد العراق إنهاء الوجود العسكري الأميركي لأن هذا سيضر بمصالحه كثيراً ويعرّض أمنه للخطر. بسبب ضغط الفصائل المسلحة على الحكومة العراقية لإخراج القوات الأميركية من البلد، وجدت الحكومة نفسها مضطرة لإيجاد آلية تفاوضية توحي أن البلد ذاهب نحو جدولة انسحاب القوات الأميركية بالاتفاق مع الولايات المتحدة. واقع الحال هو أنه ليس ثمة قرار رسمي عراقي بهذا الاتجاه، وأن لجاناً فنية، كاللجنة العسكرية العليا العراقية – الأميركية، لا تستطيع أن تناقش خطط انسحاب أو جدولته عندما لا يكون هناك قرار رسمي من السلطة السياسية في البلد بخوض مثل هذا النقاش مع الطرف الآخر.

قرار الحكومة العراقية بعدم الانصياع لضغط الفصائل لإخراج القوات الأميركية من البلد صائب ويهتم بالمصلحة الوطنية العراقية. تحتاج الحكومة أن تصارح العراقيين به وتشرح الأسباب الموجبة له بوضوح، وستجد، على الأغلب، الكثير من التفهم والدعم الشعبيين لها بهذا الصدد. هذا أفضل بكثير من مسلسل الابتزاز والمزايدات الذي لا ينتهي بخصوص هذا الموضوع.

شاهد أيضاً

جامعات أميركا… حقائق وأبعاد

بقلم: إياد أبو شقرا- الشرق الأوسطالشرق اليوم– «الانتفاضة» التي شهدها ويشهدها عدد من الحُرم الجامعية …