الرئيسية / مقالات رأي / مرة أخرى، العراق على درب الاضطراب المعتاد…

مرة أخرى، العراق على درب الاضطراب المعتاد…

بقلم: عقيل عباس – النهار العربي

الشرق اليوم- منذ 2003، عام الإطاحة الأميركية بنظام صدام حسين القمعي، وبداية تشكل نظام سياسي بديل، يُفترض أن يكون ديموقراطياً، تصدره الساسة الإسلاميون الشيعة، حتى الآن، بعد 21 عاماً على تلك الإطاحة والتصدر الذي تبعها، لم يشهد البلد استقراراً سياسياً، لا بالمعنى الإيجابي أو السلبي للاستقرار. بمعناه الإيجابي، يشير الاستقرار إلى الترسخ التدريجي للديموقراطية في البلد، بما يعنيه من تداول سلمي وروتيني للسلطة وحكم المؤسسات وسيادة القانون فيه وانطباقه على الجميع بمساواة في سياق دولة متماسكة تتمتع باحترام مواطنيها وتمثل مصالحهم وتحميها. أما بمعناه السلبي، فيعني الاستقرار الهيمنة غير الشرعية لطرف ما أو أطراف متحالفة على كامل النظام السياسي وإدارتها على نحو موحد وجائر يحافظ على الوضع القائم ولا يفضي بالضرورة إلى نتائج إيجابية لجهة نمو الصالح العام وحمايته، بل تكون الأولوية للصالح الخاص والفئوي. في الحالين، الاستقرار الإيجابي أو السلبي، هناك وحدة قرار وجهة مسؤولة عن اتخاذ القرارات وتنفيذها وتَحمل نتائجها.

يفتقر العراق الى وحدة القرار هذه الضرورية لإدارة أي دولة، فمراكز اتخاذ القرار (التي هي أيضاً مراكز قوى)، الرسمية منها وغير الرسمية، متعددة ومتنافرة، تتفق أحياناً نادرة، خصوصاً في حالات الخطر الشديد، كما في توحدها ضد تنظيم “داعش” عند بروزه وسيطرته على نحو ثلث البلد، وتهديده الجدي لكامل النظام السياسي في 2014، وتختلف في أحيان أكثر كما في خلافها الحالي بخصوص انسحاب أو بقاء القوات الأميركية. يشير مثل هذا الاختلاف، كما في اختلافات كثيرة سابقة، إلى أن العراق كدولة فاقدٌ للاستقرار الإيجابي والسلبي على السواء، وما يقوده هي نتائج صراع مراكز اتخاذ القرار بخصوص كل قضية تواجه البلد، داخلية أو خارجية، سواء المتعلقة بإمرار الميزانية الاتحادية أو إقالة رئيس البرلمان، أو حسم من الذين يصبحون محافظين ويتولون إدارة المحافظات بعد اجراء انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة أو نوعية العلاقة التي تربط العراق بإيران أو الولايات المتحدة الأميركية أو الجوار الإقليمي العربي.

عندما نجح الإطار التنسيقي، الكتلة البرلمانية الشيعية الحاكمة، في تشرين الأول (أكتوبر) 2022 في تشكيل وإمرار حكومة محمد شياع السوداني، بسهولة نسبية، بعد صراع طويل وصعب مع التيار الصدري الفائز في انتخابات 2021 البرلمانية، كان ثمة توقع ساهم “الإطار” في ترسيخه أن البلد ذاهب أخيراً نحو الاستقرار والوحدة في اتخاذ القرار بعد سنوات طويلة من الصراع والتفكك في كيفية إدارة الدولة. على مدى عام كامل تقريباً، اجتهد الإطار التنسيقي في إظهار نفسه موحداً يعمل على أساس برنامج سياسي متفق عليه وتنفذه الحكومة. كان الانطباع الذي حاول “الإطار” بثه هو وجود وحدة قرار أخيراً في البلد. في خلال هذا العام، تراجعت فعلاً الصراعات السياسية الشديدة والخلافات العلنية الكبرى التي طبعت السنوات السابقة على نحو جعل هذا العام يبدو كأنه مختلفٌ لجهة الاستقرار. في هذه الأثناء كان ثمة من يحاجج بأن هذا الهدوء السياسي غير المسبوق ليس علامة استقرار حقيقي ورؤية موحدة، وإنما هو دليل على هيمنة الإطار التنسيقي على كل أدوات الدولة تقريباً وقدرته على إخفاء خلافاته وتنافس أطرافه المختلفة على الموارد والمناصب والنفوذ ومنعها من البروز على السطح.

انتهت هذه الوحدة الظاهرية لـ”الإطار” بسرعة بعد اندلاع حرب غزة على إثر انهيار بعض أهم التفاهمات التي ساعدت “الإطار” على إبراز نفسه أمام الجمهور والخصوم موحداً في القرارات والمواقف، والحكومة على التشكل والحصول على القبول الغربي بها. كان التفاهم الأهم المُنهار بهذا الصدد هو المتعلق بتجنب الفصائل المسلحة، التي تعتبر جزءاً مباشراً أو غير مباشر من الإطار، استهداف القوات الأميركية بالقصف، مقابل ترك ملف وجود هذه القوات بيد الحكومة التي كان عليها، بموجب التفاهم مع الفصائل، أن تنتج جدولاً زمنياً لانسحاب القوات الأميركية على أساس مفاوضات عراقية – أميركية.

خرقت الفصائل المسلحة هذا التفاهم، على الأكثر بدعم إيراني أوليّ، كي تساهم في “المعارك الطرفية” في العراق وسوريا واليمن ولبنان، بديلاً عن الدخول المباشر للجمهورية الإسلامية في “معركة المركز” في غزة بعدما قرر الولي الفقيه، السيد علي خامنئي، على نحو مبكر ومعقول أن إيران لن تحارب في غزة دفاعاً عن “حماس”، بعد شن اسرائيل هجوماً واسعاً في قطاع غزة لتفكيك الحركة وإنهاء حكمها هناك. فاجأت عملية “حماس” في السابع من أكتوبر في غلاف غزة إيران وكامل محور المقاومة. بعد الرد العسكري الإسرائيلي على العملية والدعم الأميركي القوي لهذا الرد، وجد محور المقاومة، بقيادته الإيرانية، نفسه في وضع محرج جداً، إذ قام هو كمحور، على الأقل في خطابه العلني، حول الدفاع عن فلسطين وتحريرها عبر مواجهة إسرائيل. بنى المحور الكثير من شرعيته الشعبية والسياسية على خوض المعركة المرتقبة لإنجاز هذا التحرير وهزيمة الاحتلال. المضي في هذا الدرب يعني وضع إيران ومحور المقاومة في مواجهة عسكرية كاملة ومباشرة ضد إسرائيل وأميركا. تدرك ايران جيداً أن خوض مثل هذه المواجهة يعني انتحاراً عسكرياً وسياسياً، ولذلك عمدت الى خوض المواجهة الأخف عسكرياً وغير المباشرة، بطابعها غير المصيري، في “الأطراف” حيث اكتفت بالتصعيد المسلح على ما هو معتاد في السابق من كر وفر مسيطر عليهما، وترك “المركز” في غزة يواجه مصيره. ولذلك كان القرار بزيادة المواجهات كماً ونوعاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، تتولاها الأذرع المختلفة للمحور لكن من دون الانزلاق إلى حرب شاملة تتورط فيها قاعدة المحور وقيادته: الجمهورية الإسلامية.

كان أحد أثمان هذا القرار هو “التضحية” بالوحدة الظاهرية للإطار التنسيقي والاستقرار السلبي الذي حققه على مدى عام. ساهم الإصرار الأميركي على الرد العسكري المباشر على هجمات الفصائل من دون التشاور مع الحكومة العراقية أو أخذ موافقتها، في إظهار عجز الأخيرة عن فرض إرادتها على الفصائل باحترام التعهد الحكومي العراقي بحماية هذه القوات من الهجمات المسلحة. في آخر المطاف، اضطرت الحكومة العراقية للاستعانة بإيران وأطراف إطارية أخرى لممارسة الضغوط على الفصائل لوقف هجماتها ضد القوات الأميركية، عندما أصبحت هذه الهجمات تهدد “الإطار” بالتفكك، بينها تهديد رئيس الوزراء بالاستقالة بحسب مصادر، أو باندلاع صراع مفتوح بين الحكومة والفصائل، وخصوصاً أن الحكومة تعرف جيداً الثمن السياسي والاقتصادي الباهظ الذي سيدفعه العراق إذا أجبرت القوات الأميركية على الانسحاب من البلد تحت الضغط المسلح للفصائل ومنح إيران انتصاراً جاهزاً على أميركا.

يبدو أن إيران أدركت، على نحو صحيح، أن خسارتها حليفاً مخلصاً ومفيداً لها في العراق، بضمنها هيمنته على الحكم -الإطار التنسيقي – يكلفها أكثر بكثير، اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً، من المنافع المحدودة التي تحصل عليها من هزيمة رمزية لأميركا في العراق.

شاهد أيضاً

الأردن: معركة محور التّطرف!

بقلم: محمد صلاح – النهار العربي الشرق اليوم- ليس سراً أن مصر والأردن خسرا كثيراً …