الرئيسية / مقالات رأي / حين يجدّ الجدّ بين تركيا وإيران

حين يجدّ الجدّ بين تركيا وإيران

بقلم: سمير التقي- النهار العربي
الشرق اليوم– يشكل التعايش والصراع التاريخي التركي – الإيراني مختبراً لنظريات التخطيط الإستراتيجي. بنت إيران نفوذها وأمنها القومي على التمدد العقائدي، والشحن الأيديولوجي، والاستثمار في الصراعات الإقليمية.

من جهتها، راهنت تركيا على تضافر القوة الاقتصادية والتقنية، والدبلوماسية المنفتحة، ممزوجة بالاستخدام المحدود لقدراتها العسكرية في الصراعات الإقليمية، لتملأ الفراغ، حيثما تنفتح الآفاق الجيو-اقتصادية والجغرافية.

لمدة عقدين، كان “وسيط القوة” الروسي يدير ويستثمر، بالتراضي، التناقضات التركية الإيرانية. إذ كان ثمة رهان على تحالف ثلاثي إيراني- تركي- روسي، يؤسس لمشاريع خطوط الطاقة والموارد تمتد من خزانة الكنوز الدفينة للقرن الحالي في وسط آسيا، لتعبر بحر قزوين نحو إيران وصولاً إلى تركيا.

كان هذا المشروع كفيلاً بتحويل التحالف الروسي الإيراني التركي حارساً لشريان الحياة لأوروبا، بكل ما يعنيه ذلك من إعادة هيكلة الخريطة الجيو-سياسية في الكتلة الأوراسية، ودق إسفين نهائي بين تركيا والغرب.

لكن، سرعان ما بدأ هذا التحالف يتخلخل. نزل الأميركيون على ذاك الممر شرق الفرات، وتعزز موقع أربيل مقابل السليمانية في كردستان العراق.
لكن الضربة الكبرى للتحالف كانت بمغامرة غزو أوكرانيا. فبعد هذا الغزو اكتمل انهيار التحالف الثلاثي، وفضلت أوروبا أن “تموت برداً” على أن تخضع للابتزاز الروسي. بل ولّد الغزو الروسي لأوكرانيا تحولات جيوسياسية شملت الملايين الثمانين في دول وسط آسيا.

بل إزاء تراجع الرهان على السند الروسي، وفي سعيها لتأسيس هويتها القومية، بدأت دول وسط آسيا الانحياز بوضوح نحو الفضاء التركي، الواحدة تلو الأخرى.

وبعدما وازنت تركيا وإيران علاقتهما بين الصراع والتوافق، أدت هذه التحولات إلى انهيار مقومات التحالف الثلاثي، وترجيح تناقض المصالح بين البلدين. ليس هذا مجرد استقراء نظري، بل تؤكده مسارات الأحداث على الأرض! فلقد تغيرت المعادلات وصار بين البلدين الكثير مما صنع الحداد.

تنظر تركيا نحو الشرق كأفق اقتصادي جيو-استراتيجي لتطورها الحضاري ونموّها الاقتصادي. وفي المقابل، أصبح القوقاز ووسط آسيا أكثر أهمية لإيران بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فالمزيد من النفوذ التركي وتراجع النفوذ الروسي، يفاقمان المخاوف الإيرانية.

عزز الدعم الحاسم التركي لأذربيجان 2020، تحت شعار (جيش واحد لدولتين)، في حرب كاراباخ، بصمة أنقرة في القوقاز على حساب النفوذ الروسي، بعدما ألحقت القوات الأذرية المدعومة مباشرة من تركيا أضراراً جسيمة بمنظومات السلاح الروسية المتمركزة في أرمينيا والتي تصل قيمتها إلى ملياري دولار. وفي أيلول (سبتمبر) 2023 لم ينفع انحياز طهران علناً نحو أرمينيا، في تغيير مسار الصراع. فلقد سمحت استعادة أذربيجان إقليم كاراباخ بفتح أفق عملي لاتفاق سلام بين أذربيجان وأرمينيا وتعزيز النفوذ التركي.

سيمنح اتفاق السلام تركيا إمكان الوصول المباشر إلى بحر قزوين وآسيا الوسطى، لتنهي احتكار إيران الطويل للمعبر الإجباري بين وسط آسيا وأوروبا. ويتضح ذلك خاصة، بعدما فقدت روسيا احتكارها للمفاوضات الأذرية الأرمنية، بفضل انكسار العلاقات مع روسيا من جهة، وانخراط واشنطن وبروكسل في محادثات السلام.

تتسارع المشاريع لتكريس النفوذ التركي عبر خطوط نقل الطاقة نحو القوقاز والبحر الأسود، وعبر سكة حديد باكو – تبليسي كارس، وأنابيب النفط باكو – تبليسي – جيهان (BTC)، وممر الغاز الجنوبي باكو – تبليسي – أرضروم (BTE)، عبر الأناضول وصولاً إلى بحر الأدرياتيك Trans-Adriatic.

لا تقتصر العملية على الأبعاد الاقتصادية، بل إنها تتعزز سياسياً بتحالف الأمم التركية، والتدريبات العسكرية التركية الأذرية الجورجية، فيما يردد خبراء الشؤون التركية شعار “من سور الصين إلى الأدرياتيك”.
بذلك وحده تعوّض تركيا منفردة مرابحها من انهيار التحالف مع روسيا وإيران.

من جهتهم، يصف المحللون الإيرانيون ممر زانجيزور بأنه “ممر طوراني تابع لحلف شمال الأطلسي”، “مصمم لتقويض سيادة إيران واستقرارها”، فيما يتحدث الرئيس أردوغان عن أن “طهران وليس يريفان هي العائق الرئيسي” أمام فتح الممرات. وبالتالي ينظر إلى طهران، كعائق رئيسي أمام تشكل القوس التركي الممتد من شمال غربي إيران إلى شمالها الشرقي.

إلى جانب ذلك، يسكن أكثر من 20 مليون أذري تركي شمال إيران، وهم قوة سياسية رئيسية، سواء داخل السلطة الإيرانية أم في الاحتجاجات الساعية لاستقلال إقليم “جنوب أذربيجان” عن طهران. وبذلك تضيق تماماً هوامش المناورة الإيرانية وخياراتها.

في الشرق الأوسط أيضاً، تغيرت بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، مجمل الديناميات التي أتاحت في السابق لطهران هوامش المناورة الإقليمية عبر التوافقات مع خصومها. ويوماً بعد يوم، تخيب توقعات طهران بتحالفاتها الإقليمية. فمع تصاعد التطلعات التركية الجديدة، يتفاقم الاحتكاك بين البلدين على طول خطوط التماس، بعدما تداعت مقومات اتفاقات سوتشي التي ضبطت العلاقات التركية الإيرانية في سوريا. كما يترسخ دور القوة البحرية التركية بصفتها الركيزة الأساسية لنفوذ الأساطيل الغربية شرق المتوسط.

وبالطبع، لا ترتاح إيران إلى العلاقات النشطة بين تركيا وأذربيجان مع إسرائيل خصمها الإقليمي الرئيسي. فلطالما أقلق طهران التحالفُ الأذري الإسرائيلي الذي نشأ منذ 30 عاماً، إذ يتبادل البلدان منافع الطاقة والمعلومات الاستخبارية والتكنولوجيا العسكرية. بل لقد لعبت التقنيات الإسرائيلية، بالتضافر مع الدعم التركي، دوراً حاسماً في النجاحات العسكرية الأذرية في حربها ضد أرمينيا، لتتعزز المخاوف الإيرانية، بخاصة بعد نجاح حيدر علييف في إصلاح علاقات إسرائيل وتركيا وإعادة السفيرين، لتتوج بزيارة وزير الدفاع الإسرائيلي غانتس تركيا في تشرين الأول 2022.

وفي المقابل، وبعد الحرب الأرمنية الثانية، زار وزير الدفاع الإسرائيلي السابق غانتس أذربيجان، تعزيزاً للشراكة. وردت إيران على هذا التقارب بتدريبات عسكرية واسعة تحت شعار “غزاة خيبر” على طول حدودها مع أذربيجان، إذ تعتبر طهران الشراكة الاستراتيجية المعززة بين أذربيجان وإسرائيل خطوة لعزلها عن جنوب القوقاز وتهديد مصالحها وأمنها القومي.

من جهة أخرى، صار القصف المدعوم إيرانياً لمواقع المعارضة السورية في مناطق السيطرة التركية والقصف التركي المقابل، روتيناً يومياً، لا تكاد تذكره الأخبار.

وتكتمل الرقصة العسكرية التركية- الإيرانية في ساحة الشرق الأوسط في كردستان. إذ لا تداري طهران دعمها الانفصاليين الأكراد المعارضين لتركيا، بينما يلتحق المقاتلون الإيرانيون الأكراد، بصفوف البشمركة في كردستان العراق الذي تدعمه تركيا، لتقوم إيران بقصف هذه الفصائل دورياً أيضاً.

وإذ يتجنب البلدان الصدام المباشر، ويفضلان حتى الآن الحروب بالواسطة، يختبر كل منهما حكمة استراتيجيته الإقليمية. وتشعر إيران باقتراب المخاطر وضيق الخيارات.

شاهد أيضاً

أيهما أخطر؟

بقلم: محمد الرميحي – النهار العربي الشرق اليوم- جاء الزمن الصعب لنسأل أنفسنا: أيهما الأكثر …