الرئيسية / مقالات رأي / عام مرّ والقطّة الفارسيّة لم تتخلّ عن مخالبها

عام مرّ والقطّة الفارسيّة لم تتخلّ عن مخالبها

بقلم: يوسف بدر- النهار العربي
الشرق اليوم– بدأ عام ميلادي جديد والعام الإيراني لم ينقض بعد (يبدأ 21 آذار/مارس)، وبينما العالم المحيط بإيران يراجع سياسته؛ ماذا كسب وماذا خسر خلال عام 2023، بقيت الدولة الإيرانية على سياستها الخارجية في خدمة أهدافها الاستراتيجية!

وإن كانت إيران لم تعترف بمسؤوليتها عن عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي، لكننا الآن نقف على مرحلة توظيف هذا الحدث الذي هز منطقة الشرق الأوسط، والذي استفاد منه الجميع في التدرب على رفع حالة التأهب القصوى لمواجهة أوقات عصيبة كهذه!

وبالنسبة إلى إيران أيضاً، كان ذلك الحدث بمثابة مناورة كبرى للاستعداد لـ”يوم القيامة” (الحرب المباشرة)، إذ اختبرت إيران قدراتها السياسية والعسكرية والأمنية واستفادت من قنبلتها النووية البديلة (الفصائل المسلحة الموالية لها في المنطقة) في إثبات مكانتها الإقليمية المؤثرة.

لكن إن كانت طهران أرادت توظيف هذا الحدث الجلل للاعتراف بواقعية وجودها وتأثيرها في المنطقة، فإنه أيضاً أعاد النظر لدى القوى التي كانت تراهن على أن إيران يمكن أن تُغير من سلوكها لحماية مصالحها، بخاصة الاقتصادية منها، وإن كانت إيران قد حققت قدراً من ذلك الرهان، لكنها أثبتت أن “القطة الفارسية” مهما طال استئناسها لم تتخل يوماً عن مخالبها!

وبناءً عليه، يمكن القول إن التأثير البعيد المدى الذي خلّفته حربُ غزة، إلى جانب سلوك إيران وإدارتها لتحركاتها إدارةً منظمة بدا فيه أن لديها ترتيباً إجرائياً ليس من السهل أن ينجلي هذا التأثير بإطفاء هذه الحرب؛ فإنّ هناك أثراً كبيراً وقع على النظام الجيوسياسي والبنية الأمنية في الشرق الأوسط.

وإذا نظرنا إلى المحادثات بين إيران والغرب التي تراقبها قوى إقليمية ودولية لتأثير نتائجها على مصالحهم، نجدها مثالاً واضحاً على أن القطة الفارسية قد كشرت عن أنيابها إذا ما شعرت بالتهديد، فهي لم تلتزم الاتفاق الشفوي غير الرسمي الذي يضمن عدم التعرض للمصالح الأميركية في المنطقة، وقامت بإطلاق يد الفصائل الشيعية الموالية لاستهداف قوات أميركا في سوريا والعراق.

لكن من الواضح أيضاً أن واشنطن لا تريد الذهاب إلى قطع شعرة العلاقة مع طهران، لكنها تعمل على زيادة الضغط عليها في إطار التوتر المتبادل في سياق الحرب الدائرة في غزة وأوكرانيا.

ولذلك فإن تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي حذر من ارتفاع مستوى تخصيب اليورانيوم لدى إيران وتحذير مدير الوكالة رافائيل غروسي من إمكان ذهاب ملف إيران إلى مجلس الأمن؛ الهدف منه هو تهيئة الأرضية إذا ما ذهبت إيران إلى المواجهة المباشرة.

علاقة لم تكتمل
دخلت إيران والسعودية في علاقة مصالحة سياسية في آذار 2023، برعاية صينية، لكنها لم تكتمل حتى الآن بالانتقال إلى الأهداف المرجوة منها، بخاصة الأهداف التجارية والاستثمارية الضامنة لاستقرارها، ولا يزال البلدان في مستوى بداية العلاقات التي تتكرر فيها دائماً عبارة “ضرورة رفع مستوى العلاقات بين البلدين”.

ربما كانت هناك إشكاليات داخل إيران تعطل تطوير هذه المصالحة السياسية، وعلى رأسها العقوبات الغربية التي تجعل العلاقات التجارية والاقتصادية معها محفوفة بالمخاطر، لكن أيضاً القيادة السعودية تراقب السلوك الإيراني لتحديد مستقبل هذه العلاقة.
ويمكن القول إن الرياض ما زالت تمسك بورقة المصالحة مع طهران من أجل تحييد خطرها، ودليل ذلك سلوكها العقلاني الذي اتبعته ضد جماعة الحوثي اليمنية التي تعطل الملاحة في البحر الأحمر، والتي ما زالت إيران تستخدمها هراوة عسكرية ضد دول الخليج، بخاصة السعودية والإمارات.

وإن كانت الرياض وطهران قد اتفقتا على ضرورة وقف العدوان على غزة، بخاصة أن السعودية تشكلت لديها قناعة بأن إسرائيل سبب أيضاً في الوضع الذي تمر به المنطقة، ولهذا تصر على مبادرة “حل الدولتين” قبل الدخول في أي عملية تطبيع معها، لكن الرياض لديها قناعة أيضاً الآن بأنها لم تحل مشكلة التهديدات الإيرانية بعد.

فقد تزايدت مخاوفها من إيران، وهي لم تصل بعد إلى مرحلة ما بعد إيقاف الحرب في غزة والدخول في الخلاف بشأن مستقبل القضية الفلسطينية، بخاصة أن طهران ما زالت تعمل على تأخير خطة التطبيع بين الرياض وتل أبيب، وهو ما يربك خطط السعودية الاقتصادية في إطار رؤية 2030.

تحييد الخلافات
يمكن القول إن إيران نجحت خلال عام 2023 في تحييد خلافاتها مع دول الجوار بأن حافظت على الشعار الذي رفعه جهاز خارجيتها منذ وصول رئيسها المحافظ إبراهيم رئيسي إلى الرئاسة في آب (أغسطس) 2021، من أن الأولوية هي لدول الجوار!

وإن كانت إيران لم تنجح بعد في فرض رؤيتها حول تشكيل نظام أمني إقليمي مشترك (مبادرة هرمز للسلام) يقوم بعزل إسرائيل عن المنطقة؛ لكنها نجحت في التأثير على ديناميكيات المنطقة بالشكل الذي لا يمكن فيه تجاوزها.

فقد تفاعلت معها دول عربية وإسلامية، بل حتى من أوروبا وآسيا في إطار دورها الفاعل في رسم خريطة حرب غزة، بخاصة أن قرار اتساع الحرب خارج حدودها كان ينتظر فقط أن تأتي الموافقة من طهران، وهو ما جعل الرسائل متبادلة ومتوالية بين العاصمة الإيرانية وعواصم أخرى.

بل إن إيران جنت المكاسب من سياسة تحييد الخلافات التي اتبعتها بشكل أقنع دول الجوار بوجود أمل للتعامل تعاملاً مستقراً معها، فقد ظهرت إيران إلى جانب الدول العربية والإسلامية في إطار التضامن الإسلامي خلال القمة التي استضافتها الرياض في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، وهو ما يخدم أجندتها الخارجية التي دائماً ما تظهر فيها أنها قوة مؤثرة في العالم الإسلامي.

بل إن سياسة التحييد هذه ساعدت الرئيس الإيراني على زيارة السعودية، بدلاً من الخلاف مع الرياض على مَن يبادر ويسافر أولاً، فضلاً عن اللقاءات المهمة التي أجراها رئيسي مع قادة دول عربية وإسلامية خلال وجوده هناك، وأبرزها لقاؤه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي فتح الباب لإمكان تطوير العلاقات مع القاهرة، بخاصة أن الاتصال الهاتفي الذي أجراه رئيسي لتهنئة السيسي بعد فوزه بولاية رئاسية جديدة، يعني أن العلاقات بين البلدين قد وصلت إلى مستوى متقدم.

ربما كانت هناك جهود عُمانية وعراقية انطلقت منذ المصالحة الإيرانية – السعودية لفتح باب الحوار بين القاهرة وطهران، لكن الأزمة في غزة وفرت القناعة لدى الطرفين بأهمية تطوير العلاقات بينهما، بخاصة أن إيران بتحييدها الخلافات والرُؤى المتعارضة أظهرت سلوك دولة أكثر من سلوك جماعة سياسية، وهو ما كانت تنزعج منه دولة مستقرة في سياستها الخارجية مثل مصر.

ولذلك، فإن كانت إيران لم تحقق الكثير من سياسة الحوار مع دول الجوار، لكنها نجحت في الانفتاح على علاقات أكثر، بخاصة أنها تريد التعدد في علاقتها بما يضمن لها الاحتفاظ بمكانتها في إطار التوازنات الإقليمية!

الصبر الاستراتيجي شمالاً
ربما شمالاً لم تنجح إيران في تحقيق علاقة استراتيجية مع روسيا رغم كل الدعم الذي قدمته لها، بل إنها بدأت تقلق من سلوك موسكو التي تقترب أكثر من دول الخليج بفعل العقوبات الغربية، لدرجة أن إيران تشعر أن روسيا والولايات المتحدة الأميركية تعملان على دعم أمن دول الخليج ومهمتهما المشتركة هي تحييد التهديدات الإيرانية عن هذه الدول!

لكن الأمر يدور في إطار لعبة التوازنات والمصالح، وهو أمر متغير، تمكن معالجته في إطار المصالح المتبادلة، ولذلك بينما تعززت العلاقات التجارية بين موسكو ودول الخليج على حساب ما كانت تنتظره إيران من حليفتها روسيا بالعمل على تطوير موانئها الجنوبية؛ كانت طهران تستثمر أيضاً في أخطاء روسيا شمالاً في منطقة جنوب القوقاز.

فقد نجحت طهران واقعياً في إدارة مصالحها عند حدودها الشمالية بما يحمي حدودها الجيوسياسية، فقد ضغطت على الدولتين المتحالفتين أذربيجان وتركيا لإفشال مخططهما لإخراج إيران من معادلة حركة التجارة والترانزيت بين دول بحر قزوين وآسيا الوسطى مع أوروبا، بخاصة أن هذين البلدين استغلا ضعف أرمينيا وتقاعس روسيا وانشغالها بأوكرانيا في التخطيط لتغيير الحدود بين أذربيجان وأرمينيا.

لذلك تعد زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان أرمينيا، الأربعاء 27 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، تتويجاً للسياسة التي اتبعتها إيران شمالاً، فهي تسد الفراغ الذي أحدثته روسيا، بخاصة أن أرمينيا الآن تحتاج إلى قوة إقليمية تساعدها على التوازن أمام القوى المتحالفة أذربيجان + تركيا + إسرائيل!

ولذلك نجد سياسة الصبر الاستراتيجي التي اتبعتها إيران شمالاً قد أثمرت، فأرمينيا تبحث الآن عن مرفأ لتجارتها على حدود إيران الجنوبية المطلة على الخليج وتستثمر في ميناء تشابهار الإيراني.

وفي إطار تهدئة التوتر أيضاً مع أذربيجان القلقة على مستقبلها ضمن خريطة تجارة الترانزيت، افتتحت إيران معها جسراً جديداً يَعبر من فوق نهر آرس على الحدود بين البلدين، إلى جانب إعلانها عن إنشاء خطوط سكك حديد تجارية جديدة مع تركيا، الأمر الذي يدعم سهولة عبور التجارة من أذربيجان إلى تركيا عبر إيران، وكل ذلك يصب في دعم مشروع إيران الاستراتيجي ممر شمال-جنوب، الذي مهمته ربط التجارة بين شمال آسيا وجنوبها عبر إيران، وكذلك بين آسيا وأوروبا.

والمحصلة، إن عام 2023 شهد تغيراً في سلوك إيران الخارجي تجاه دول جوارها في إطار خدمة أهدافها ومصالحها، وليس في إطار الاستجابة لمطالب التغيير التي تنادي بها هذه الدول، قبل الدخول في علاقات ومصالح مشتركة متبادلة ومستقرة معها.

شاهد أيضاً

بأية حال تعود الانتخابات في أمريكا!

بقلم: سمير التقي – النهار العربي الشرق اليوم- كل ثلاثة او أربعة عقود، وفي سياق …