الرئيسية / مقالات رأي / هل انتخب الفاسدون فاسدين في العراق؟

هل انتخب الفاسدون فاسدين في العراق؟

بقلم: فاروق يوسف- النهار العربي
الشرق اليوم– يصعب القول إن هناك شعباً فاسداً. تلك فكرة قاسية عن الفساد الذي يكون أحياناً قد تجاوزت خرائطه جغرافياً منظومة الحكم. غير أن عشرين سنة من الفساد الإداري المالي في العراق والذي خلق دولة فاشلة بكل المعاني لا بد أن يتخللها تطبيع للفساد على المستوى الشعبي. لذلك فإن الفساد هناك لم يعد حكراً على الزعامات السياسية ومريديها ولا بأعضاء الأحزاب الحاكمة أو أتباعها، بل تجاوز كل هذا ليؤسس لعلاقات نفعية لم يعرفها الشعب العراقي قبل الاحتلال.

تلك علاقات قائمة على التربح غير المشروع، غالباً ما تكون المؤسسات الحكومية ملعبه ويدفع المواطن ثمنه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فبعدما أُتيحت الفرصة للأحزاب الحاكمة عبر العشرين سنة الماضية لأن تقيم دولتها المجاورة لمشروع الدولة العراقية الجديدة، صار من الطبيعي أن يصطدم المواطنون في حياتهم اليومية بجدران غير مرئية، غير أنها صلبة ولا يمكن اختراقها من أجل الوصول إلى الدولة والحصول على خدماتها إلا من خلال طرق غير قانونية. ذلك يعني أن المواطن العادي صار على بيّنة من أن القانون لن يحميه أو ييسر له الحصول على حقوقه إلا بالاستعانة بقوة غير قانونية. تلك هي قوة المال أو القوة التي تفرض وجودها عن طريق السلاح. في ظل تلك العلاقة الملتبسة بين ما هو قانوني وما هو غير قانوني لم تعد صفات النزاهة والعفة ونظافة اليد والسماحة والسمو والنبل متداولة اجتماعياً إلا في حدود ضيقة، وإن تم تداولها سرياً فإنها لا تلتقي مطلقاً بالمفاهيم الرسمية المشاعة.

فضائيون في دولة فاشلة
ما من دولة في العالم يتم فيها رفع شعارات القضاء على الفساد ومحاربته بالحجم الذي يحدث في العراق. كل زعماء الأحزاب والميليشيات والطوائف والكتل السياسية لا برنامج لهم سوى ذلك البرنامج الذي ينص على إشهار موقفهم المناوئ للفساد والمندد به.

غير أن الدولة العراقية لم تشرع قانوناً واحداً يتعلق بذمة موظفيها الكبار المالية الذين يثرى الواحد منهم بطريقة صاروخية، لا يمكن تخيل سرعتها. فمَن يشتري على سبيل المثال منصباً حكومياً بمئتي مليون دولار يتمكن من استرداد أمواله ويضيف إليها أضعافها خلال وقت قياسي خشية أن يُعرّض منصبه في المزاد مرة أخرى. وفي ظل تلك الظاهرة تزداد حشود الموظفين “الفضائيين” وهو مصطلح عراقي يُشار من خلاله إلى الموظفين الذين يدفعون الجزء الأكبر من رواتبهم الشهرية لمديريهم من أجل أن لا يعملوا رسمياً ويتفرغوا إلى أعمالهم الخاصة. كان حيدر العبادي وهو رئيس وزراء أسبق قد فاجأ نفسه وأعضاء حكومته حين أعلن بفخر بعد 2014 الكشف عن ظاهرة الجنود الفضائيين، ومنذ ذلك الوقت اتسع نطاق الظاهرة ليشمل كل مفاصل الدولة وملحقاتها غير القانونية مثل الحشد الشعبي الذي يستهلك جزءاً مرئياً من الموازنة السنوية رواتب لمنتسبيه من غير أن يعرف أحد، حتى ولا رئيس الوزراء العدد الحقيقي لأولئك المنتسبين. ليس لأن ذلك العدد سر من أسرار الدولة بل لأنه باب من أبواب الفساد المشرعن.

تزييت خيط الفساد
وللفساد في العراق، وهو فساد غير مسبوق عالمياً لا نوعاً ولا كماً حسب آراء الخبراء الأكاديميين، أبواب لا تُعد ولا تُحصى تفنن خبراؤه من العراقيين وغير العراقيين ممَن جمعتهم شهوة الاستيلاء على أموال العراق السائبة في اختراع أنواعها وسبل الوصول إليها، الخفية والمكشوفة على حد سواء. وليس مهماً بالنسبة إلى الفاسدين في ظل تسييس مهمتهم حزبياً وإقليمياً الاجتهاد في البحث عن أغطية لها. فالغطاء الطائفي الذي يستند إلى حجة تنص على ضرورة العمل على دعم الاقتصاد الإيراني دفاعاً عن المذهب وتحصينه يكفي لتمرير صفقات مالية عن طريق مناقصات وهمية، تساهم في إبرامها جهات حكومية تقع على عاتقها مسؤولية إخفاء حقيقة تلك الصفقات بدءاً من الوزارات والمحافظات وانتهاءً بالبنك المركزي العراقي الذي يدخل دائماً في خصام مع شركات الصرافة في محاولة من موظفيه لإخفاء طبيعة عملهم الحقيقي.

واقعياً فإن خيط الفساد تمكن من اختراق كل الجبهات وهو ما تعرفه الجهات المصرفية في الولايات المتحدة، وهي المسؤولة عن تزييته بأموال النفط العراقي كلما شعرت أن هناك عائقاً يحول دون استمرار عمل ماكينة الفساد المحلية. وفي المقابل، فإن الانتخابات التشريعية (مجلس النواب) والبلدية (مجالس المحافظات) التي يشهدها العراق دورياً دليلاً إلى عافية نظامه السياسي الديموقراطي هي المحاولة المحلية لتزييت خيط الفساد دفعاً للشبهات التي تلاحق بعض المتورطين الكبار في قضايا الفساد من غير أن يتولوا منصباً حكومياً مشروطاً بالتزامات الحد الأدنى من شروط الوظيفة. فالعضو في مجلسي النواب والمحافظات هو في حقيقة عمله شخص لا يعمل سوى على إدارة مصالحه الشخصية من خلال تمرير صفقات الفساد.

جيل جديد من الفاسدين
عندما وضع محتجو تشرين (أكتوبر) عام 2019 إسقاط مجالس المحافظات ضمن مطالبهم كانوا قد وجهوا الأنظار إلى باب من أبواب الفساد المشرعن الفائض عن حاجة الدولة. وهو ما دفع النظام إلى أن يجمد عمل تلك المجالس دفعاً لشبهات يعرف أنه في غنى عنها. أما وقد استقر النظام بعدما قام مقتدى الصدر بواجبه، أولاً حينما منع الاحتجاجات وتصدى بالسلاح لما تبقى منها، وثانياً حينما تخلى عن الأصوات التي حصل عليها في انتخابات عام 2021 وجعلت منه منتصراً للخاسرين في تلك الانتخابات، فقد حانت الفرصة لإعادة مجالس المحافظات إلى العمل والاستفادة من ذلك الممر الحيوي الذي تُسرب من خلاله الأموال المخصصة للمحافظات.

وكالعادة، فإن النظام لم يشذ عن القاعدة التي رسمتها له سلطة الاحتلال الأميركي. كان هناك عرس انتخابي، لم تتخلله برامج سياسية أو خدمية. كل ما كان الجمهور يعرفه عن المرشحين أنهم نالوا تزكية النظام الحاكم. فإذا كان المرشحون، من هُزم منهم ومَن انتصر، يمثلون جيلاً جديداً من الفاسدين فماذا عن الجهور القليل الذي تحدى الإرادة الشعبية وذهب إلى انتخابهم؟ سؤال لا بد من أن يعيدنا إلى عقدة تطبيع الفساد.

شاهد أيضاً

أيهما أخطر؟

بقلم: محمد الرميحي – النهار العربي الشرق اليوم- جاء الزمن الصعب لنسأل أنفسنا: أيهما الأكثر …