الرئيسية / مقالات رأي / ماذا علّمتنا الحرب في غزة؟

ماذا علّمتنا الحرب في غزة؟

بقلم: عقيل عباس – النهار العربي

الشرق اليوم- وهي تدخل شهرها الثالث، لا تزال الحرب في غزة تثير الكثير من المشاعر القوية والحادة المعتادة عربياً، لكن أيضاً هذه الحرب كاشفة عالمياً عن وقائع جديدة بعضها لافت ويمكن أن تشكل أساساً لتحولات ايجابية مستقبلاً. تضمنت بعض هذه الوقائع التعاطف العالمي شعبياً ونخبوياً مع الفلسطينيين كشعب من خلال الاحتجاج ضد القصف الإسرائيلي الذي أوقع ضحايا مدنيين كثيرين وتأكيد الحق الفلسطيني في تأسيس دولة مستقلة وربط التمييع أو الالتفاف الإسرائيلي حول هذا الحق بتصاعد الغضب الفلسطيني الشعبي المشروع. في معظم هذا الخطاب الدولي الجديد والواعي، ثمة تمييز بين “حماس” كمنظمة مسلحة، بإيديولوجية دينية، حاكمة في غزة وعمليتها في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) من جانب، والشعب الفلسطيني الذي يتعرض لظلم الهيمنة الإسرائيلية المنهجي استيطاناً واحتلالاً، وسوء حكم مؤسساتي فلسطيني يشوبه الفساد وضعف الكفاءة بمقادير مختلفة سواء في الضفة الغربية وقطاع غزة، من جهة أخرى. ساهمت هذه التمييزات الواضحة والسخط الذي تشكل عبرها أو استفاد منها في ممارسة ضغوط سياسية كبيرة، غربية عموماً على مستوى المؤسسات والجمهور، على اسرائيل لتقنين عمليتها العسكرية خصوصاً لجهة القصف الجوي في غزة والسماح بالمساعدة الإنسانية ووضع إسرائيل أمام اشتراطات القانون الدولي بخصوص حماية المدنيين مع الإقرار بحقها السيادي كدولة معترف بها بحسب القانون الدولي في الدفاع عن نفسها.

إقليمياً، يتخذ التعاطف العربي مع المحنة الفلسطينية طابعاً عمومياً ويستنفر الثنائيات المألوفة بخصوص صراع الشر والخير دون تمييزات قانونية وسياسية وإنسانية بين الجماعات والقوى المختلفة في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الشديد التعقيد. في العادة تخفي ثنائياتُ الخير والشر تعقيدَ الأشياء لصالح تبسيطات ساذجة غالباً ما تُزيّف وعي الجمهور وتقود الى الخيارات الخاطئة سياسياً والمكلفة انسانياً. هيمنت العمومية والثنوية على معظم الرد الشعبي والمؤسساتي العربي، فعلى سبيل المثال كانت هناك العودة السريعة للازدواجية العميقة الجذور في الثقافة السياسية والشعبية العربية بخصوص تحديد إنسانية الضحايا. بموجب هذه الازدواجية لا يعتبر الإسرائيليون المدنيون الذين سقطوا في السابع من أكتوبر بأسلحة “حماس” من أطفال وشيوخ وعجائز وسواهم من غير المسلحين، وبينهم عرب ومسلمون ومسيحيون فضلاً عن اليهود، بشراً بحقوق طبيعية وقيمة إنسانية، بل لم يغطّ الإعلام العربي الكثير من الفظاعات التي حدثت ذلك اليوم. في الحقيقة، كان الرد الإعلامي والشعبي العربي عموماً ومنذ الساعات الأولى لهجوم السابع من تشرين الأول يلغي انسانية الضحايا لصالح تحليلات عسكرية الطابع فضفاضة وشعاراتية، ومغلوطة معرفياً على نحو عميق، بخصوص إعادة التوازن الاستراتيجي للصراع مع إسرائيل والردع العربي المسلح، فضلاً عن الفخر الواضح والمعلن بعملية يُصنفها القانون الدولي على أنها ارهابية. في إطار هذا الفخر الجمعي تم استدعاء خطاب المقاومة العاطفي الطابع والخالي من تحديدات قانونية وأخلاقية رصينة، من جديد ليمنح شرعية أخلاقية لنزع إنسانية الضحايا.

تأكدت هذه الازدواجية أكثر عندما اتضح سريعاً الرد الإسرائيلي بوحشيته العالية ونزوعه الثأري الذي أطاح عملياً بالتمييز بين المدنيين والعسكريين على الجانب الفلسطيني، إذ توقف الإعلام العربي ملياً، وعلى نحو صحيح غالباً، عند العناء الفلسطيني وآلام الضحايا ليؤكد إنسانيتهم وضرورة حمايتهم، فيما كان معظم هذا الإعلام يفخر قبل هذا بأيام بقتل مدنيين اسرائيليين ويقدمه على أنه عمل بطولي ومقاوم، أو على الأقل مبرر. لا يفرق القانون الدولي، وعلى نحو صحيح ودقيق وأخلاقي، بين الأفعال المسلحة للدول والجماعات المقاتلة، سواء كانت مقاومة أو ميليشيات أو غيرها، إذ يعتبر الجميع محاربين أو قوى أو أطرافاً محاربة تنطبق عليها الفقرات القانونية نفسها وتقع عليها الالتزامات نفسها في أثناء الحرب وكيفية إدارتها. بين هذه الفقرات والالتزامات، تجنب استهداف المدنيين وخطفهم وأن يكون رد الفعل متناسباً مع الفعل وغيرها كثير. القيام بمثل هذه الأفعال يوقع الأطراف المتحاربة تحت طائلة ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية. ارتكب الطرفان، اسرائيل و”حماس”، هذه الجرائم في أثناء حرب غزة، لكن ما يتم التوقف عنده ملياً في السياق العربي، إعلامياً وشعبياً وحتى سياسياً، هو الجرائم الإسرائيلية فقط، فيما تُغيّب المسافة الفاصلة والمهمة بين “حماس” كقوة مسلحة موجودة بالآلاف على الأرض والفلسطينيين العاديين ليصبح الجميع فجأة مدنيين وضحايا مُعاقبين على أشياء لم يفعلوها

لكن بعيداً عن الجدل في هذا الشأن، ثمة حقائق سوسيولوجية وسياسية، تبدو راسخة عربياً، تخفي هذه الازدواجية والانتقائية وتبررهما وتحميهما من المساءلة والتشكيك. تتصل إحدى هذه الحقائق برفض ضمني لإخضاع العمل الفلسطيني المسلح للمساءلة وتقييمات الجدوى والنتائج (وهذا الرفض عموماً يمتد لأي طرف مسلح ضد إسرائيل كما في حالة “حزب الله” اللبناني وإن كانت هذه “الحصانة” تتراجع لدى الجمهور اللبناني العام). تغيب عموماً في السياق السياسي والإعلامي وحتى النخبوي العربي أسئلة منطقية عن جدوى قيام “حماس” بعمليتها في السابع من أكتوبر وهل الثمن الهائل إنسانياً الذي ما يزال الفلسطينيون يدفعونه في غزة يبرر مثل هذه العملية. ما الذي جناه الفلسطينيون العاديون بالضبط من عملية السابع من أكتوبر؟ الإحساس بالانتصار واسترداد الكرامة كما يُشاع في السياق العربي العام؟ وهل التشرد والقتل وتهديم البنية التحتية الهائل الذي تعيشه غزة وأهلها دليل على انتصار على الخصم وكرامة مستردة؟ أم هو يشير إلى العكس من هذين تماماً، حيث لا أمل بإيقاف الموت والعناء إلا باستصراخ العالم والاعتماد على تعاطفه وبالتالي ضغطه على اسرائيل لردعها وتخفيف قبضتها العسكرية الخانقة بكل القسوة التي تصاحبها؟

يرتبط رفض المساءلة وتقييم جدوى الأفعال بحقيقة أخرى مُحزنة في ثقافتنا السياسية العربية، ينساق معها معظم الجمهور ويحولها إلى قيمة تأسيسية ومعيارية وهي أن “شجاعة” المحاولة أهم من نتائجها فشلاً أو نجاحاً. وهكذا تصبح النتائج ثانوية وعابرة، حتى وإن كانت آثارها سلبية عميقة وطويلة الأمد، فيما المحاولة نفسها هي الأساسية والمهمة وهي مقياس الإخلاص والوطنية واختبار الولاء.

في التاسع من حزيران (يونيو) 1967، ظهر الرئيس المصري جمال عبد الناصر في خطاب تلفزيوني شهير يعلن تنحيه عن الرئاسة وتحمله مسؤولية هزيمة حرب حزيران المدوية. كان الرجل محقاً ومصيباً في ما قاله، فهو فعلاً السبب في تلك الهزيمة المروعة. وكانت لحظة شجاعة نادرة أن يعترف زعيم عربي، خصوصاً من وزن عبد الناصر، بفشله ويقرر التنحي عن السلطة بسبب هذا الفشل. في اليوم التالي خرجت الملايين من الجمهور العربي في مصر وبلاد عربية أخرى إلى الشوارع، حزينة وغاضبة ومتحمسة، تطالب عبد الناصر بالبقاء في منصبه، وهذا ما حصل. في تلك الأزمنة العاطفية التي تراجع فيها المنطق لصالح المشاعر، كان الجمهور عملياً يكافىء الفشل ويقول إن النجاح ليس مهماً في تقييم الأداء والمسؤول!

في سياق أيام غزة الحالكة والمحزنة حالياً، يتكرر مشهد عربي شبيه البطل فيه هو يحيى السنوار والمحتفون حماسةً وإعجاباً جمهور واسع لا يهتم كثيراً للنتائج.

شاهد أيضاً

إنصاف «الأونروا»

بقلم: وليد عثمان – صحيفة الخليج الشرق اليوم- لم تكن براءة وكالة الأمم المتحدة لغوث …