الرئيسية / مقالات رأي / هل من أمنٍ لإسرائيل بوجود شعب في فلسطين؟

هل من أمنٍ لإسرائيل بوجود شعب في فلسطين؟

بقلم: عبدالوهاب بدرخان- النهار العربي
الشرق اليوم– مرّة أخرى، كما هي الحال مع أي “فيتو” أميركي (أو روسي في مناسبات أخرى)، يعني “الفيتو الأميركي” ضد قرار لمجلس الأمن يطالب بوقف إطلاق النار في غزّة أن الإدارة الأميركية تؤكّد دعمها استمرار الحرب، لأنها حربها مقدار ما هي حرب إسرائيل، وتطالب في المقابل بمواصلة القصف والقتل والتدمير بذريعة البحث عن قادة “حماس” وبنيتها العسكرية، وبمواصلة تشريد فلسطينيي غزّة وحرمانهم من معالجة جرحاهم ورفع مفقوديهم من تحت الأنقاض، فضلاً عن تجويعهم وتعطيشهم وتركهم بلا مأوى، للضغط على “حماس” كي تطلق الرهائن وتسلّم سلاحها وتستسلم لقوات الاحتلال، تأييداً لحقّ الاحتلال في الدفاع عن احتلاله، وربما أيضاً كي يبادر قادة “حماس” ومقاتلوها إلى “تعرية” أجسادهم كي يستمتع العدو بإذلالهم والتقاط “صورة النصر” التي يتلهّف لها…

هذه هي “القيم الحضارية” التي تدافع الولايات المتحدة عنها الآن: إرهاب فوق الإرهاب لدحر الإرهاب، من دون التفطّن إلى أن ما يجري وصفة مستقبلية لتوالد الإرهاب. نصائح جو بايدن لقادة مجلس الحرب الإسرائيلي بألّا ينجرّوا إلى “الانتقام” وألّا يرتكبوا أخطاء أميركا في العراق وأفغانستان التي كانت، في لحظتها، نوعاً من الطوباوية الساذجة، وأصبحت لدى تطبيقها على الأرض أقرب إلى توصية بالذهاب أبعد وأبشع من تلك الأخطاء. ولم تشكّل الـ200 طائرة أسلحة سوى مباركة للتوحّش الإسرائيلي حتى بعدما تجاوز “الأخطاء”، كما أن الطلب من الكونغرس الموافقة على “بيع” 45 ألف قذيفة لدبابات “ميركافا” كان “تصحيحاً” لخطأ الربط بين مساعدات (مرفوضة) لأوكرانيا بمساعدات (مؤكّدة) لإسرائيل، بمقدار ما كان إصراراً بايدنياً على هزيمة “حماس” و”انتصار” إسرائيل.

لم يعد التضارب والتقلب والتذبذب في المواقف الأميركية ثُغراً يشير إليها المختصّون، بل سمات نافرة أمام الرأي العام العالمي. فما يقوله الرئيس غير ما يعلنه أنطوني بلينكن، وما يدلي به جيك سوليفان غير ما يتلفّظ به جون كيربي، لكنهم جميعاً ملتزمون “صهيونية” الرئيس ونائبته، أما ما يعلنونه فأضحى تمرينات على الوضوح المموّه والغموض المفتعل لكن دائماً على النفاق الهادف، على رغم إدراك الإدارة أن كل ذلك ما عاد ينطلي على الرأي العام الأميركي بمن فيه من رافضين لهذا القتل العاري للمدنيين الفلسطينيين حتى لو كانوا من المؤيّدين تقليدياً لإسرائيل، فكيف يقنع رأياً عاماً دولياً، وبخاصة عربياً وإسلامياً. لكن الإدارة تعوّل على عجز العرب وانسحابهم من قضيتهم “المركزية” (رضوخاً لضغوط وابتزازات مستمرّة من واشنطن)، كما تعوّل على أن الغاضبين حول العالم بدأوا يعتادون على المشاهد المأسوية الآتية من غزّة وسينسونها مع انتهاء الحرب، فيما يأمل رئيسها أن يعوّض ما يخسره من شعبية حالياً حينما يجد الناخب الأميركي نفسه أمام خيار بين السيّئ والأسوأ، بين بايدن ودونالد ترامب.

لكن متى تنتهي الحرب؟ يستمر التلاعب بالمواعيد. إسرائيل تريد مدى زمنياً مفتوحاً، فإذا سرّبت واشنطن أن المهلة “أسابيع” أو “شهراً” ينتهي آخر السنة، يقول قادة الحرب إنهم يحتاجون إلى شهرين أو أكثر، وأخيراً قالت واشنطن إنها لم تحدّد أي مهلة. أما بالنسبة إلى العالم فباتت ساعات غزّة وأيامها تقاس بمئات الضحايا المدنيين ومئات المساكن المدمّرة ومئات شاحنات المساعدات غير المسموح بها إسرائيلياً، وإلى ذلك يضيف الغزّيون مساحة أن الأرض التي يعيشون عليها لا تنفكّ تتقلّص وتضيق بهم. هنا تتظاهر واشنطن بأنها تحاول “يومياً” معالجة مسألة استهداف المدنيين، إلا أنها لم تقل في أي يوم إن إسرائيل تنقض تعهداتها ولا تمتثل لمطالبها، إذا كان كل ذلك صحيحاً أصلاً. الصحيح أن الطرفين، الإسرائيلي كما الأميركي، ملتزمان الذهاب بالحرب إلى أقصاها، أي إلى غزو كل قطاع غزّة، والقتال من بيت إلى بيت ومن شارع إلى شارع، وصولاً إلى ما يسمّيانه “القضاء على حماس”.

وماذا عن الرهائن مع احتدام القتال والإعلان عن قنابل اختراقية متطورة قدّمتها أميركا لدعم الحرب وتسريعها؟ على رغم “الأولوية” التي تعطيها واشنطن وإسرائيل علناً لهذا الملف، إلا أنهما تتحسّبان ضمناً لإمكان خسارتهم، بدليل الإصرار على تحريرهم بعمليات خاصة ولو بالمجازفة بقتلهم، كما حصل فعلاً. لذا يطالب ذوو الرهائن الإسرائيليين في تظاهراتهم باستئناف المفاوضات لإعادة أبنائهم “أحياء الآن”، ولا يمانعون أن يكون الثمن وقفاً موقتاً لإطلاق النار أو إطلاق جميع الأسرى الفلسطينيين، أو المساومة بإدخال مزيد من الوقود إلى غزّة مقابل الرهائن. غير أن المجلس الحربي يرفض “تصفير السجون” الإسرائيلية ليتمكّن من مواصلة ابتزاز الفلسطينيين، حتى أنه يكاد يضاعف الأسرى الـ5 آلاف الذين كانوا موجودين قبل 07/10/23 بعدما رفع عدد المعتقلين الجدد في الضفة إلى 3700 عدا الذين أُخذوا أخيراً من غزّة.

لا تجهل الإدارة الأميركية أن الهدف الإسرائيلي الآخر عير المعلن للحرب هو اقتلاع سكان قطاع غزّة وتهجيرهم، وهو ينفّذ بالتدمير والتقتيل منذ اللحظة الأولى ولا يزال مستمراً على وقع إعلانات واشنطن أنها لا تزال تتوقّع من إسرائيل مزيداً من “الجهود” لتجنّب استهداف المدنيين. وسيبقى تاريخياً ذلك المؤتمر الصحافي لجيك سوليفان (04/11/23)، إذ كرّر فيه أن محادثات يومية تجرى في شأن “حماية المدنيين”، ومما قال إن إسرائيل “تعهّدت الطلب من السكان إخلاء مناطق ستقوم فيها بعمليات عسكرية في جنوب غزّة وستحدد مناطق لن يتمّ استهدافها ويمكنهم اللجوء إليها، على أن تبلغهم لاحقاً بإمكان العودة إلى منازلهم بعد انتهاء العمليات…”. يصعب الاعتقاد بأنه هو نفسه يصدّق ما يقوله، خصوصاً أنه تهرّب مراراً من تأكيد أو نفي ما إذا كانت تلتزم فعلاً هذه التعهّدات، إذ “لم يجرِ تقويم أدائها بعد”، وإذا جرى فلن تُعلن نتيجته، وبالتالي فإن حقيقة الموقف الأميركي ظهرت في “الفيتو”، وهو كان رسالة واضحة إلى العالم بأن “وقفاً لإطلاق النار” ليس من شأن مجلس الأمن، بل هو قرار تتخذه واشنطن بالتوافق مع إسرائيل.

أشارت تقارير الوكالات الأممية إلى أن القصف الإسرائيلي يدفع الغزّيين جنوباً إلى الحدود المصرية. وبالتالي فإن التهجير الذي تؤكّد واشنطن أنها ترفضه، لا يزال على جدول الأعمال الإسرائيلي، بدليل إنذارات لسكان مناطق عدّة في الضفة الغربية بإخلائها. إذا لم تكن واشنطن مؤيّدة لهذا المشروع فكيف يمكنها والحال هذه أن تقاومه، وكيف يمكن أن تقنع “الشركاء” العرب بالتعاون مع خططها لغزّة بعد الحرب إذا كانت متفهّمة/ متفقة مع حليفها الاستراتيجي على استحالة ضمان أمنه ما دام هناك شعب فلسطيني في فلسطين.

شاهد أيضاً

أيهما أخطر؟

بقلم: محمد الرميحي – النهار العربي الشرق اليوم- جاء الزمن الصعب لنسأل أنفسنا: أيهما الأكثر …