الرئيسية / مقالات رأي / الممر الهندي بين معارضين في السياسة وخائفين في الاقتصاد

الممر الهندي بين معارضين في السياسة وخائفين في الاقتصاد

بقلم: طوني فرنسيس – اندبندنت عربية

الشرق اليوم- نهض العالم في كل تاريخه على التجارة وممراتها، ومن أجل تلك الممرات وتجارة مجدية قامت الحروب والاكتشافات وأمكن رسم الخرائط للمحيطات والبحار والجبال والسهول والصحاري، وخلالها ترسخت فكرة كروية الأرض قبل أن تثبتها اكتشافات وممرات أخرى على اليابسة والمياه والفضاء الشاسع.

اتصلت الصين بأوروبا والمغرب العربي عبر الشرق الأوسط بواسطة طريق الحرير، وعبر طريق التوابل نمت علاقة الهند بالخليج العربي والقارة العجوز، وأرادت إسبانيا طريقاً إلى الهند أقصر من ذلك الذي يمر حول رأس الرجاء الصالح فأرسلت كريستوف كولومبوس الذي بدلاً من الهند، وجد نفسه في عالم جديد يزخر بالذهب لا بالبهارات والأفاوية!

حصل كل ذلك على وقع التنافس والصدام، فكانت التجارة مرادفاً للحرب أو امتداداً لها، مثلما أن الحرب امتداد للسياسة على قول المعلم كلاوسفيتز، وامتدت تلك المرحلة قروناً من الحروب المغولية إلى حروب الاستعمار الأوروبية بهدف اقتسام العالم، فإلى المجازر العالمية العظمى في القرن الـ20 التي لم تنهِ عصور اشتباكات السيطرة، لكنها فتحت الباب واسعاً أمام احتمال التنافس من دون اللجوء إلى دمار شامل للمنافسين.

شهد العالم منذ بداية القرن الحالي وانتهاء الحرب الباردة نشاطاً كثيفاً في مجال فتح مسارب جديدة للنقل والتعامل والتبادل. لم تكن خطوط الغاز والنفط بين روسيا وأوروبا الغربية وبين العراق وتركيا سوى البداية، ولاحقاً نهضت مشاريع الربط البري بين الشمال والجنوب، واتفقت روسيا وإيران والهند (عام 2000) على مشروع طموح يربط البلدان الثلاثة بشبكة طرق وسكك الحديد تصل روسيا بالبلدين عبر بحر قزوين، وتصل الهند بميناء تشابهار الإيراني على بحر العرب. وفي الأعوام التالية طرحت أفكار كثيرة ووقعت اتفاقات حول ربط البلدان العربية بشبكات القطار والطرق والأنابيب قبل أن تعلن الصين عن مبادرة “الحزام والطريق” بلسان زعيمها شي جينبينغ في كازاخستان عام 2013، ومنذ ذلك الحين اتسعت المبادرة لتشمل نحو 150 دولة في آسيا وأفريقيا وأوروبا وليتقرر من خلالها تنفيذ أكثر من 2600 مشروع في أكثر من 100 دولة، وستة ممرات أبرزها الممر الأوسط من تركيا إلى الصين عبر جورجيا وأذربيجان وبحر قزوين ثم تركمانستان وأوزباكستان وقيرغيزستان وكازاخستان.

سبقت الهند الصين في سياسة الممرات ومشروعها مع روسيا وإيران أقدم بـ13 عاماً من مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، والأسئلة التي تطرح اليوم حول تضارب هذه المبادرات وخلفياتها السياسية، خصوصاً بعد الإعلان عن الممر الهندي – الخليجي- الأوروبي خلال قمة “مجموعة الـ20” الأخيرة في الهند، إنما تعود للحسابات السياسية لأطرافها، وليس لجدواها والتطوير الذي يمكن أن تحدثه في الحياة التجارية والاقتصادية الدولية.

المشروع الذي أعلن عنه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيسان الهندي والأمريكي هو في الواقع خطوة طبيعية وواقعية نحو تعزيز العلاقات بين ثلاثة أجزاء من العالم ربطتها منذ قرون علاقات اقتصادية عريقة. كانت الروبية الهندية عملة سائدة في الخليج العربي حتى عقود قليلة، وكان التجار والبحارة العرب يجوبون البحار بين الجزيرة العربية والهند استيراداً وتصديراً، وحضرت الجاليات الهندية إلى الخليج بكثافة لتشارك في نهضته وازدهاره بعد بداية عصر النفط، ولذلك لم يكن مشروع الممر الذي أعلن عنه قبل أيام مفاجئاً أو غريباً ليوضع في موقع المنافسة مع “الممر الصيني” كما ذهب مجتهدون في السياسة، فمشروع الممر الهندي هو بمثابة تطوير حديث لما كان قائماً منذ مئات السنين.

رحبت الصين التي غاب زعيمها شي جينبينغ عن “مجموعة الـ20” بحصيلة القمة ولم يصدر عنها انتقاد لمشروع الممر الذي تقرر وضع آليات تنفيذه خلال شهرين، لكن انتقادات صدرت ضد المشروع من ثلاث جهات كل لأسبابه.

في روسيا، رأت فيه الصحافة المقربة من السلطات محاولة لتعطيل “الحزام والطريق”، ونقلت “أزفستيا” عن المستشرق الروسي أندريه أونتيكوف قوله “إنه مشروع موجه ضد الصين… وكثيرون يربطون غياب شي جينبينغ عن القمة بفكرة ممر النقل الجديد” الذي جرى “توريط الهند فيه” ضمن ما سمّاه المستشرق “لعبة الأميركيين المفضلة التي حققت نجاحاً كبيراً في أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا والتي تقوم على مبدأ فرّق تسد. في الجوهر ستستغل أميركا التناقضات بين بكين ونيودلهي وتضعهما في مواجهة بعضهما بعضاً”. لكن ليس هذا الرأي الوحيد الذي نقلته وسائل الإعلام الروسية، ففي صحيفة “أرغومنتي إي فاكتي” نقرأ عن تعاون روسي- هندي في تطوير ممر النقل عبر بحر الشمال، وفي ذلك تقول ويندي ديتليفا رئيسة قسم في الجامعة المالية التابعة للحكومة الروسية، إن “الهند هي إحدى أكبر القوى البحرية في العالم، ومشارك رئيس في الشحن الدولي، لذلك يهتم الهنود بصيانة القواعد والسيارات في منطقة القطب الشمالي، فوجودهم هناك يزيد من نفوذهم السياسي… وسيكون ذات فائدة مضاعفة لروسيا”.

ليست الأحكام السياسية المسبقة كافية للحكم على مشروع في حجم المشروع الهندي – السعودي – الأوروبي، ولا قيمة لرمي الاتهامات المتسرعة حول استهداف هذا البلد أو ذاك، على رغم أن صانعي مثل هذا المشروع الضخم يبحثون أصلاً في الجدوى وفي الموجبات الأمنية والاقتصادية.

بدا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منزعجاً من الممر الجديد وهو في طريق عودته من نيودلهي. قال للمراسلين إن تركيا “أكثر ملاءمة لحركة المرور من الشرق إلى الغرب… ولن يكون هناك ممر من دون تركيا”.

يدعم أردوغان خطاً يمر عبر العراق من الفاو إلى تركيا فإلى أوروبا، لكن صحفاً تركية معارضة انتقدت الرئيس التركي وقالت إن “أطراف الممر الهندي اختاروا الطريق الآمن وليس العراق حيث تسيطر إيران والميليشيات التابعة لها”.

ولم تخفِ إيران استياءها، فصحيفة “خراسان” الأصولية كتبت أن “إيران هي الخاسر الرئيس من هذا الممر، وحتى من ممر طريق الحرير الصيني… فطهران متخلفة عن ركب الدول المنافسة في هذه الممرات بسبب عزلتها الدولية…”، وذهبت صحيفة “سرامد” إلى الاستنتاج أن “المشروع سيكون له ما بعده، فهو يهدد موانئ إيران وعليها النظر إليه بجدية”.

تطمح طهران إلى ربط العراق وسوريا وصولاً إلى لبنان بشبكة ممراتها، لكن طغيان الطابع الأيديولوجي الأمني على السياسة الإيرانية يجعل طموحاتها متعسرة. فحتى العراق رفض رغبة إيران في تحويل خط شلمجة – البصرة الذي افتتح أخيراً إلى خط لنقل البضائع، وأصرّ على كونه مخصصاً للركاب المسافرين. وفي إيران، ترتفع أصوات تناقش في الاقتصاد وضرورة تغيير السياسات، ويقدرون بين أوضاع بلادهم والمملكة العربية السعودية، القطب الإقليمي والدولي في مختلف المشاريع التي يجري العمل عليها. ولاحظ مدير صحيفة “صبح أمروز” صالح أبادي أن السعودية “تقود خطة لتغيير” شكل الشرق الأوسط، ويقول “السعودية حققت نمواً إيجابياً يتجاوز 8.7 في المئة، فيما بلغ النمو في إيران في آخر 32 عاماً 3.2 في المئة، وكان سلبياً في السنوات الـ12 الأولى بعد الثورة بنسبة 1.7 في المئة”، ليخلص إلى القول إن “استمرار إيران بسياستها الحالية يعني أنه لن يكون لها أي دور اقتصادي في الشرق الأوسط الجديد”.

لقد فتح مشروع الممر الهندي- الخليجي- الأوروبي العيون والجراح الكامنة، ولدى تنفيذه ستكون أوضاع كثيرة قد تغيرت في منطقة راوحت كثيراً في براثن حسابات بائدة.

شاهد أيضاً

بأية حال تعود الانتخابات في أمريكا!

بقلم: سمير التقي – النهار العربي الشرق اليوم- كل ثلاثة او أربعة عقود، وفي سياق …