بقلم: أسعد عبود – النهار العربي
الشرق اليوم- في موازاة الحرب الروسية- الأوكرانية، يزداد التوتر بين روسيا وألمانيا ويتعمّق التباعد أكثر فأكثر بين موسكو وبرلين، وكأنّ سنوات التعاون التي ميّزت علاقات البلدين منذ انتهاء الحرب الباردة وحتى الانفجار الأوكراني، قد ولّت إلى غير رجعة.
العلاقات الروسية- الألمانية هي في مرحلة قد تكون أدنى مما كانت عليه قبل سقوط جدار برلين. فالتبادل التجاري الذي كان عنوان التطور في العلاقات، يقارب الصفر منذ فرض العقوبات الغربية على روسيا، ولا يبدو أنّ موارد الطاقة ستكون مُدرجة على جدول أعمال أي حكومة ألمانية في المدى المنظور، فوداعاً لـ”نورد ستريم” بخطّيه الأول والثاني.
المستشار الألماني أولاف شولتس يستقبل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في برلين، بينما لم يتحدث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولو هاتفياً منذ (ديسمبر) الماضي.
بعد دبابات “ليوبارد 2″، السخاء الألماني لا يتوقف تسليحاً ومساعدات اقتصادية لكييف بما يصل إلى 2.5 مليار يورو على صعيد ثنائي، من دون تلك التي تندرج في سياق الإتحاد الأوروبي. ألمانيا وفي غضون 15 شهراً، انتقلت من كونها أكبر مستورد للغاز الروسي، إلى أكبر دولة أوروبية داعمة لأوكرانيا بالسلاح والمال.
وكان إعلان الحكومة الألمانية تأييدها الضربات الأوكرانية في العمق الروسي وإعتبارها عملاً مشروعاً بموجب القانون الدولي، ومن ثم إغلاق 4 قنصليات روسية في ألمانيا، بمثابة تعبير آخر عن الإنتقال شيئاً فشيئاً نحو حالة من المواجهة، التي لا تحتاج كثيراً حتى توقظ تاريخ العداء الذي دفع البلدان ثمنه باهظاً.
وروسيا بدورها، لم تعد أوروبا بالنسبة إليها وتحديداً ألمانيا، تمثل مركز الثقل في سياساتها التي تتعمّق اليوم مع الصين والهند ومناطق أخرى من العالم.
وقبل أيام، أعلنت وزارة الخارجية الروسية، أنّ موسكو خفّضت بشكل كبير واعتباراً من حزيران (يونيو) الجاري، عدد الأشخاص، الذين يمكن ألمانيا أن ترسلهم أو توظفهم في روسيا في سفارتها أو في مؤسسات عامة، لاسيما في قطاعي الثقافة والتعليم.
ويطاول هذا الاجراء العقابي موظفين في السفارة والقنصلية، إلى موظفين في معهد “غوته” الثقافي في البلاد والمدرسة الألمانية، وحتى مدرّسين يعملون في المدارس الروسية. صحيفة “سودويتشه تسايتونغ” الألمانية، اعتبرت ذلك بمثابة “إعلان حرب دبلوماسية من موسكو” على برلين.
وتراجع العلاقات بعد الحرب، تخلّله تبادل الطرد لعشرات الدبلوماسيين الروس والألمان، على خلفية إتهامات بالتجسس.
هذا التبدّل في أولويات موسكو وبرلين، هو أخطر مظهر جيوسياسي يرافق الحرب الروسية- الأوكرانية، كونه يؤسس لواقع شديد العداء بين أوروبا وروسيا، ويقلّل تالياً من إمكانات الوصول إلى سلام أوروبي في المستقبل القريب.
تدهور العلاقات الروسية- الألمانية لا يصبّ في مصلحة السلام الأوروبي. ومحاولات عزل روسيا من القارة عبر صيغ سياسية جديدة تدفع إليها فرنسا وألمانيا وبريطانيا، تؤجج حال العداء وتشكّل توطئة لمرحلة أكثر كآبة في القارة.
من اجتماع مجلس أوروبا في أيسلندا الشهر الماضي، من دون روسيا، إلى اجتماع المجموعة السياسية الأوروبية في مولدوفا، من دون روسيا، يعطيان مؤشراً واضحاً عن مسار قد بدأ لشطب موسكو من الأجندة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للقارة الأوروبية.
إنّ ما يريد الأوروبيون قوله اليوم، هو أنّ روسيا ليست موجودة على خريطة أوروبا السياسية، وفك الإرتباط معها بات هو القضية.
قضية أوروبا اليوم هي رسم خريطة أوروبا من دون روسيا، على رغم أنّ التكلفة باهظة جداً. وألمانيا وفرنسا اللتان تُعتبران قلب أوروبا الغربيةـ تقودان القارة في خيار خطير جداً وسيترك ذيولاً إستراتيجية على المستقبل.
ولهذه الأسباب كان الموقف الألماني المبالغ في العداء لروسيا، هو البوصلة التي تحدّد وجهة قارة أتعبتها الحروب والنزاعات، وظنت أنّ السلام الذي ساد بعد عام 1945، سيكون دائماً.