الرئيسية / مقالات رأي / الدّولة تنهب ما تبقّى منها في العراق

الدّولة تنهب ما تبقّى منها في العراق

بقلم: فاروق يوسف- النهار العربي
الشرق اليوم– خرج العراق من حربه ضد إيران عام 1988 منهكاً اقتصادياً، غير أن الدولة كانت لا تزال قوية. كان وجود الرقابة المالية واحداً من أهم مظاهر قوة الدولة التي تجلت من خلال قوانين مبالغ في عنف إجراءاتها ضد كل مظاهر الفساد، بما فيها الاحتكار وقبض العمولات والتعامل بالعملة الصعبة والتصرف بموارد الدولة أو ممتلكاتها.

وبعد حرب الكويت التي خرج منها العراق مهزوماً، وصل عنف تلك القوانين الاستثنائية إلى درجة قطع الأيدي والآذان. غير أنه كانت للحصار الذي فرض على العراق، بدءاً من عام 1990 آثاره المدمرة، ليس على الاقتصاد العراقي فحسب، بل أيضاً على قدرة الدولة على مراقبة عمليات الفساد التي صارت تخترقها، بعدما ارتخت قبضة أجهزتها التي صار أفرادها يعيشون وضعاً صعباً أسوة بأفراد الشعب الآخرين. غير أن الفساد لم يتجاوز عتبة الرشوة أو العمولة بمبالغ لم تكن ذات قيمة كبيرة، كما أن أثرها لم يصل إلى درجة تُدخل الدولة في دوامة التخلي عن خدماتها.

كانت الدولة لا تزال تعمل في ظل اختلال بسيط في قيم النزاهة التي كانت سائدة في المجتمع العراقي. فعلى سبيل المثال لم يكن المواطن مضطراً إلى دفع رشوة إلى موظفين صغار من أجل تمرير معاملته. أما أموال الدولة فإن أحداً لم يقترب منها. ذلك لأن كبار الموظفين، بمن فيهم الوزراء، لم يكونوا يملكون القدرة على سحب أموال إلا عن طريق نظام رقابي معقد لم يكن اختراقه يسيراً. كانت الدولة يومها تعمل بآلياتها التقليدية المتوارثة.

أموال مستباحة ولا رقابة
ما جرى بعد الغزو أن تلك الدولة أزيلت بكل شبكتها المعقدة وصارت الأموال في متناول المسؤولين، كباراً وصغاراً، من غير أن يكونوا مضطرين إلى طلب أذونات بالصرف وموافقة جهاز رقابي. صارت السرقة ميسرة، فهي أشبه بمَن يسرق بيته. وإذا ما عرفنا أن دولة نفطية مثل العراق لا يقل مدخولها السنوي عن المئة مليار دولار، يمكننا أن نصدق أن ما يزيد على الـ(400) مليار دولار قد تم التصرف بها بطريقة عشوائية ومن غير وصولات في المرحلة التي ترأس فيها نوري المالكي الحكومة ما بين عامي 2006 و2014. ذلك لا يعني أن الرجل سرقها بل يعني أنه سمح باستباحتها. لم يكن المالكي ميالاً إلى أن تعود الدولة إلى ممارسة دورها الرقابي، كما أن أجهزة السيطرة النوعية قد عُطّلت. وهو ما سمح لمافيات الفساد بأن تبتكر طرقاً عديدة لتجريد الدولة من أموالها، بدءاً باستيراد مواد وبضائع تالفة وفاسدة ولا تصلح للاستعمال، وانتهاءً بسرقة مخازن الدولة.

والمؤلم أن هيئة النزاهة اكتشفت غير مرة أن المستشفيات الحكومية تعرضت للنهب المنظم، كما أن أجهزة الرقابة اكتشفت أن الأدوية التي تُباع في الصيدليات إما أن تكون مسروقة من الدولة أو أنها منتهية الصلاحية أو أنها مخالفة للمواصفات، بحيث يؤدي استعمالها إلى الموت. ذلك ما يمكن توقعه في ظل فساد لم يترك مكاناً إلا واخترقه، بغضّ النظر عن القيم الإنسانية التي يتنكر لها.

لصوص مدانون ولكن
لقد تم تأسيس الدولة الجديدة في العراق لتكون مشروعاً للفساد. فساد يتخطى بمستوياته المفهوم العالمي المعلن. يُقال مجازاً إنه ما من دولة في العالم هي في منأى عن الفساد. ولكن درجة الفساد التي وصل إليها العراق تجاوزت الحدود المسموح بها حتى وصُفت بأنها لم تقع منذ ظهور آدم. فالفاسدون في العراق سرقوا الأموال من غير أن يكونوا مطالبين بتفسير سرقتهم أو ترك أثر يشير إلى سبل الإنفاق. تلك هي أكثر أنواع السرقة غرابة في التاريخ. كما أن المدانين بالسرقة ظلوا مطلقي السراح.

على سبيل المثال، حين اعتقل وزير الكهرباء أيهم السامرائي بتهمة التصرف بثلاثة مليارات دولار، أفرجت القوات الأميركية عنه وهرّبته إلى الولايات المتحدة التي هو واحد من مواطنيها، وحين ألقى الأنتربول الدولي القبض على وزير التجارة عبد الفلاح السوداني في مطار بيروت وسلمه إلى بغداد، تمت تبرئته خلال وقت قياسي وإعادته إلى بريطانيا التي يحمل جنسيتها. لصوص كثيرون كانوا قد فلتوا بمليارات الدولارات واختفوا ولم يعد يذكرهم أحد. اليوم إذ تعلن هيئة النزاهة عن قيام موظفي وزارة الصحة بسرقة الأدوية المدعومة حكومياً، وهو ما أدى إلى خلو المستشفيات الحكومية من الأدوية، فإنها لا تأتي بجديد.

تلال من الورق لن يقرأها أحد
عبر العشرين سنة الماضية لم يتوقف العراق عن شق الطرق وتعبيدها وبناء الجسور وتشييد المدارس والمستشفيات والمنشآت العامة واستيراد وسائل النقل البري والطائرات المدنية. كما أن الحكومات المتعاقبة أولت اهتماماً خاصاً للخدمات الأساسية كالكهرباء ومشاريع المياه العذبة والصرف الصحي وسواها من مفردات البنية التحتية. كل ذلك استهلك الجزء الأكبر من واردات العراق المالية لقاء بيع النفط. غير أن كل شيء لم يكن إلا حبراً على ورق. كانت هناك دائماً صفقات وعقود وهمية نتجت منها تلال من الورق هي عبارة عن المخططات الأولية التي وضعتها الشركات المتعاقد معها، والتي تسلمت المبالغ المنصوص عليها في العقود واختفت. وللحق يمكن القول إن بعض تلك الشركات شيدت الهياكل، فيما اكتفى البعض الآخر بوضع الحجر الأساس. الكثير من تلك الشركات كان وهمياً، أما القليل منها فكان حقيقياً، غير أن المتعاقدين معه من الطرف العراقي فضلوا أن يختفي بعدما تسلموا عمولاتهم.

واللافت في الأمر أن رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي كان قد رعى غير مرة احتفالات بوضع حجر أساس لمنشآت عامة، لا تزال بعد سنوات عبارة عن أرض خواء. وهو ما يشير إلى أن عمليات سرقة الدولة كانت تجري بطريقة منظمة وبإشراف مباشر من المسؤولين الذين تعهدوا للصوص بأن لا أحد يلاحقهم. وهو ما جرى رغم أن هيئة النزاهة تعلن بين حين وآخر أن آلافاً من الموظفين، بمن فيهم عشرات الوزراء، هم في طريقهم إلى المساءلة. وكما يبدو فإن هيئة النزاهة ستظل مركونة وراء تلال من الأوراق التي لن يتصفحها القضاء.

شاهد أيضاً

لمَ انفرد ماكرون بمغازلة إيران؟

وجدي العريضي- النهار العربي الشرق اليوم– أصدرت الرئاسة الفرنسية، مساء السبت 5 تشرين الأول/أكتوبر، بياناً …