الرئيسية / مقالات رأي / ما معنى أن يكون المرء مستقلاً في العراق؟ (1 من 2)

ما معنى أن يكون المرء مستقلاً في العراق؟ (1 من 2)

بقلم: عقيل عباس- النهار العربي
الشرق اليوم– على مدى الأعوام الأخيرة، أخذ يظهر مصطلح “المستقل” ويتصاعد استخدامه في السياقات العامة والخاصة العراقية، خصوصاً السياسية منها، باعتباره توصيفاً إيجابياً للمرء على أساس أنّ المستقل محايدٌ ومنصفٌ ولم “يتلوّث بأوساخ” الحزبية العراقية وعيوبها الفظيعة بعد 2003. مع بلوغ عيوب الأحزاب العراقية المهيمنة وفضائحها حدّ الجرائم المنهجية التي تمضي من دون عقاب في ظل نظام سياسي ظاهره ديموقراطي وجوهره مافيوي يقوم على التواطؤ بين أطرافه المختلفة لحماية مصالحها الحزبية والشخصية على حساب المصالح الوطنية، يبدو استخدام توصيف “المستقل” كمضاد لحزبية مشبوهة أمراً مبرراً ومفهوماً.

يساعد المزيد من التأمل في مثل هذا الاستخدام وسياقه السياسي وترسيخه المتزايد في الخطاب العام وصولاً لمنحه صفة التفوق الأخلاقي، على اكتشاف الخلل العميق فيه لأنه مجرد رد فعل لا يؤسس لشيء جديد ومفيد، بل يكرّس فهماً خاطئاً يمنح الأحزاب العراقية المتشاركة بالحكم امتيازاً بالتأسيسية والتعريفية، بمعنى الإقرار الضمني سلفاً أن هذه الأحزاب تشكل المعيار والنموذج لما ينبغي أن تكون عليه الأحزاب السياسية، وبالتالي يتطلب إعلان الاحتجاج والاعتراض عليها تأكيد ما هو نقيض لها وهو “الاستقلالية”، أي كون المرء مستقلاً وليس حزبياً كي لا ينتمي إلى الحيز العام الذي تنتمي إليه هذه الأحزاب.

بدلاً من إعطاء هذه الأحزاب امتياز الأصالة والتعريفية هذا الذي لا تستحقه لا معرفياً ولا تأريخياً ولا واقعياً، فإن الصحيح هو وضع هذه الأحزاب في إطارها المناسب والحقيقي: حركات شوهت معنى الحزبية في نظام يُفترض أن يكون ديموقراطياً، وحولته إلى نظام “كلبتوقراطي”، أي نظام يقوم على النهب المنهجي لموارد الدولة وتفكيك مؤسساتها وإضعافها لتصبح لواحق إقطاعية تابعة لهذه الأحزاب وتخدم مصالحها المباشرة مقابل إهمال مصالح المجتمع وعموم الناس. الرد الصحيح على هذه الحزبية المشوهة واللصوصية هو تشكيل حزبية أخلاقية ومسؤولة وليس التنكر لكامل فكرة الحزبية! حصل كثير من هذا في العراق: تغوّل حزبي على المال العام ومعنى الدولة ومن ثم عجز الدولة عن تأدية التزاماتها القانونية نحو المجتمع يقابلها سلبية متصاعدة ورفض اتخاذ موقف حقيقي وصريح، وليس عمومياً ومجاملاً، تحت عنوان “الاستقلالية” والحجة المألوفة والعقيمة بالوقوف محايداً بين أطراف متصارعة كي لا يُحسب المرء على طرف بإزاء آخر!

للتمسك بالاستقلالية جذر قديم في السياسة والمجتمع في العراق، كما في دول الشرق الأوسط الأخرى، ارتبط بالاستقلال كفهم جماعي للذات أو الكينونات الوطنية، وليس بوصفه خيارات فردية للأشخاص في تحديد علاقتهم بالحياة السياسية في البلد كما يجري الآن على نحو خاطئ في العراق. ظهرت الاستقلالية، أو الاستقلال، في العراق كما المشرق العربي على نحو ملتبس بنهاية الحرب العالمية الأولى مع الاستيقاظ البطيء لمشاعر الوطنية المحلية، في خضم نهاية السيطرة العثمانية المباشرة على المنطقة مع نظام السلطنة ذي الطابع الإسلامي التراثي وتحولها إلى السيطرة الأوروبية غير المباشرة، الفرنسية والبريطانية خصوصاً، في ظل نظام الانتداب ذي الطابع الحداثوي المشروط. برزت دعوات الاستقلال حينها في المنطقة كردّ فعل على الإعلانات الفرنسية والبريطانية المبكرة بخصوص “تحرير” دولها من سيطرة “التخلف” والاستبداد العثمانيين، فضلاً عن الإعلانين المُهمّين في تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 لرئيس الحكومة السوفياتية حينها فلاديمير ايليتش لينين وفي كانون الثاني (يناير) 1918 للرئيس الأميركي وودرو ويلسون. دعا هذان الإعلانان، في سياقاتهما المختلفة جداً، إلى منح الشعوب حق تقرير المصير. كان صداهما، خصوصاً الأميركي أو ما عُرف بمبادىء ويلسون الأربعة عشر، واسعاً في المنطقة.

عبر هذه المحطات كلها، بضمنها أخطاء التعامل البريطانية والفرنسية مع السكان المحليين في المنطقة بعد هزيمة العثمانيين، برزت قويةً الروحُ الاستقلالية الداعية إلى التحرر من الهيمنة الأوروبية وتشكيل دولة مستقلة تحكمها شعوبها. في إطار المواجهة هذا، ارتبط الاستقلال، كهدف عام يحظى بإجماع شعبي وكترتيب سياسي مستقبلي للحياة الوطنية، بمعان إيجابية تتصل بالتحرر والانعتاق وحرية الإرادة الجمعية، حتى برغم المآلات السيئة لحركات الاستقلال الوطني في المنطقة، التي انتهت عموماً بأنظمة عسكرية قمعية حاكمة سلبت حرية المرء أو المواطن في تشكيل وإعلان آرائه المستقلة بخصوص ترتيبات السياسة وسلوك النخب العسكرية الماسكة بالسلطة والثروة. أرادت هذه النخب مواطناً تابعاً وطائعاً وليس مستقلاً بآرائه عن الأفكار الجماعية التي كانت السلطة تكرسها وتروج لها بخصوصها ودورها “الإنقاذي” وطابعها “التحرري” وسلوكها “التنموي”، الذي مَثَّل في حقيقته سعياً مؤسساتياً وحزبياً من هذه النخب لتأبيد وجودها في السلطة.

لم ينفصل السياق العراقي عموماً عن مثيلاته في دول المنطقة الأخرى بشأن تمجيد الاستقلال كفعل جماعي ضد الغرب من جهة، وتقويضه، بل حتى المعاقبة عليه، كفعل فردي للأشخاص بإزاء السلطة من جهة أخرى. أصبح هذا الاستقلال الفردي فكرياً عن السلطة وهيمنتها الايديولوجية بمثابة فعل احتجاج فردي سياسي وصامت عراقياً في عهد الحكم البعثي الطويل بين عامي 1968 و2003، خصوصاً في الحقبة الصدامية منذ عام 1979 فصعوداً، في ظل السياسة الشمولية الحكومية، المدعومة اقتصادياً ومؤسساتياً وأمنياً، بتبعيث كل شيء في البلد حتى الحياتين العامة والخاصة. شَيْطَنت حركةُ التبعيث هذه معنى أن يكون المرء مستقلاً بوصف هذا الاستقلال عداءً ضمنياً لـ”الثورة والحزب” ورفضاً لـ”مبادئهما الخالدة” وتنصلاً من “منجزاتهما العظيمة”. في سياق هذا التصنيف الثنوي الصارم للمجتمع بين أصدقاء وأعداء ورفض السماح بوجود حيز ثالث، وإن كان سرياً، إلا بعناء شديد، أصبح الحصول على الفرص المهنية والثقافية والاقتصادية للمستقلين أمراً بالغ الصعوبة في ظل نظام شمولي تسيطر فيه الدولة على الموارد والفرص والبشر. حينها، كان بقاء المرء مستقلاً إنجازاً شخصياً، حتى تحول هذا الإنجاز المفترض في نظام ما بعد 2003، صدقاً وكذباً، مفخرةً فردية ودليلاً على شجاعة شخصية بإزاء الدكتاتورية السابقة.

بسبب اقتران هذه التركة النفسية الإيجابية إلى حد ما بمعنى حفاظ المرء على نفسه من “التلوث” البعثي وبقائه صامداً فوق التهديدات والإغراءات، من المنطقي أن يتواصل بعضها بخصوص “المستقل” في ظل النظام “الديموقراطي” الجديد. لكن الظروف مختلفة كثيراً، فخيار الاستقلال لم يعد فعلاً بطولياً أو متميزاً بسبب غياب القسر والضغط المؤسساتي الذي كان سائداً في عقود الحكم البعثي. بعد 2003، أصبح الانتماء الحزبي اختيارياً ومتنوعاً وبالتالي فإن الامتناع عنه لا ينطوي على الصمود الفردي ولا التمسك بمثل عليا يعاقب عليها النظام السياسي. “الاستقلال” في ظل الظروف العراقية الحالية التي تتغول فيها الحزبية العراقية الفاسدة على الدولة ومؤسساتها وتنكل بمصالح المجتمع المشروعة، هو إعلان “اللاموقف” بإزاء تفكيك الدولة ونهب مواردها والتفريط بحقوق المجتمع والمواطنين. اتخاذ موقف سياسي واضح وصريح ودقيق ضد هذا كلّه هو موقف أخلاقي ضروري ولا يعني انتماءً مؤسساتياً لحركة حزبية ما. على امتداد هذا الزمن العراقي الكالح الذي صنعت بؤسه أحزابُ السلطة ومريدوها، الحديث عن “الاستقلال” والتفاخر بكون المرء مستقلاً هو أشبه بالحديث عن الحياد في التعاطي مع المأساة وتنصل للمرء من مسؤوليته الفردية في رفض الظلم والتعسف والنهب والتغوّل السائد في النظام السياسي الحالي.

في الاحتجاج التشريني الباسل 2019-2020، لم يخرج العراقيون الغاضبون من فتية وشباب وشابات ورجال ونساء لأنهم كانوا حزبيين ولا للادّعاء بأنهم مستقلون، بل لأنهم كانوا غاضبين على نحو مشروع وأخلاقي من النهب والفساد والظلم الذي تمارسه الأحزاب الحاكمة. ولم يُقتَلوا بالمئات ويُجرَحوا ويُعوّقوا ويُطارَدوا بعشرات الآلاف لأنهم كانوا يريدون انتزاع السلطة من هذه الأحزاب والحكم بدلاً منها، بل لأنه لم يعد ممكناً السكوت على كل السوء الحاصل والمتواصل في البلد. الحياد بإزاء هذا السوء أو السكوت عليه هو دعم ضمني له، حتى عندما يُروَّج لهذا الحياد تحت العنوان المضلل بكون المرء “مستقلاً”.

شاهد أيضاً

عند الأفق المسدود في غزة

بقلم: عبدالله السناوي – صحيفة الخليج الشرق اليوم- استغلقت حرب غزة على أي أفق سياسي …