الرئيسية / مقالات رأي / تحدّيات السيادة في تونس

تحدّيات السيادة في تونس

بقلم: أسامة رمضاني  – النهار العربي

الشرق اليوم– يلاحظ المتابع للسرديات الرسمية، وحتى غير الرسمية في تونس هذه الأيام، إلحاحاً على “سيادة البلاد” وكأنما هذه السيادة في خطر.

هذا التأكيد لـ”السيادة” يأتي في الواقع على خلفية تواتر المواقف الدولية المعبرة عن “الانشغال” بالأوضاع في تونس والتي تحاول تقديم وصفات لعلاج أزمات البلاد، وبخاصة أزمتها المالية الحادة. بعض الأطراف الأجنبية أصبحت تتحدث عن “الملف التونسي” و”المسألة التونسية”.

يعتبر مفهوم السيادة بشكل عام مرادفاً لاستقلال الأمم ورغبة حكامها في ممارسة سلطتهم داخل حدود بلدانهم من دون تدخل خارجي. ولكن التطورات التي طرأت على الساحة العالمية جعلت من السيادة مفهوماً نسبياً على صعيد الممارسة الفعلية.

معظم الدول مستعدة لخوض الحروب دفاعاً عن سيادتها الترابية واستقلالها، ولكنها أيضاً مضطرة للتسليم بأن السيادة الفعلية بكل أوجهها هي في الواقع رهينة عوامل عديدة من بينها ترابط المصالح بين الدول والدور الذي تلعبه المنظمات والاتفاقيات الدولية (وما انبثق منها من منظومات قيم كونية تتعلق بالديموقراطية وحقوق الإنسان) إلى جانب تأثر الجميع بالتحولات العميقة التي أثرت في العلاقات بين الأمم مثل الثورة المعلوماتية والعولمة الاقتصادية.

ولا شيء يبرز ترابط المصالح بين الدول مثل التعاون الدولي في مجال مقاومة خطر الإرهاب. وقد احتاجت تونس ولا تزال إلى التعاون مع الأصدقاء والشركاء لمجابهة شبكات التطرف والإجرام، وذلك بقرار ذاتي ومن منطلق المصلحة المشتركة. 

التعاون مع الدول الأخرى كان أيضاً أساس عقيدة أمنية وعسكرية تتناسب وأهداف تونس وإمكاناتها، ومكنتها منذ الاستقلال من اجتناب السقوط في فخ تكديس الأسلحة وما يتبعه من أعباء مالية في تخطيطها العسكري الرامي إلى مواجهة كل ما يهدد السلم في البلاد أو يستهدف سيادتها الترابية كما تعرفها القوانين الدولية. 

في ذلك الإطار، سعت تونس إلى اجتناب الاصطفاف وراء الأحلاف وإلى “تصفير المشاكل والعداوات الخارجية” قدر المستطاع.

ليست هناك تحديات خارجية تهدد بالاعتداء على سيادة البلاد الترابية ما عدا التهديدات الإرهابية وإن كانت هذه التهديدات خفتت إلى حد كبير.

ما يهدد استقرار تونس اليوم الضائقة المالية التي تمر بها وتفرض قيودا موضوعية على استقلالية القرار الاقتصادي للدولة.

مازالت السلطات تسعى للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي رغم أنها تخشى انعكاسات الشروط المرتبطة به على اوضاعها الاجتماعية الصعبة وإن كان لا يلبي إلا النزر القليل من حاجاتها التمويلية لهذا العام. فمن دون هذا القرض سيكون من الصعب على الدولة الحصول على القروض ومختلف  أشكال الدعم المالي الأخرى التي تحتاجها من الشركاء والمانحين الإقليميين والدوليين. 

تخلت الحكومات التونسية المتعاقبة منذ 2011 عن جانب من سيادتها الاقتصادية نتيجة سياسات خاطئة أدت إلى التعويل المفرط على الاقتراض من الخارج والإنفاق بلا قيود في الداخل لغير أغراض الاستثمار والإنتاج.

أهدرت تونس كذلك الكثير من قدراتها ومواردها بتعطل الإنتاج في قطاعات استراتيجية بسبب الاحتجاجات الاجتماعية. وليس هناك مثال أفصح عن الضرر الذي ألحقه وقف الإنتاج بمصالح البلاد مثل الخسائر في المداخيل بالعملة الصعبة التي تكبدتها الدولة نتيجة تعطل تصدير الفوسفات لسنوات طويلة بذرائع مختلفة من دون أن تحرك السلطات ساكنا رغم أن البلاد كانت تعيش في ظل حالة طوارئ.

إن قرار الدولة اليوم استئناف العمل بشكل حثيث في مناجم الفوسفات خطوة على طريق التصرف الصحيح في الموارد وتعزيز الأسس الاقتصادية للسيادة. ولكنها خطوة تحتاج إلى عزيمة صلبة وآليات تنفيذ ناجعة تبتعد عن الأساليب التي سادت منذ 2011.

ويبقى الحفاظ على السيادة الاقتصادية مرتبطا بوعي الجميع في تونس، من عمال ونقابات ومسؤولين إداريين وسلطات حاكمة، بأن البلاد تحتاج إلى كل دولار يمكن أن يدخل موازنتها. لا مبرر لوقف الإنتاج في أي قطاع حيوي ولو كان ذلك للاحتجاج.

الاقتصاد هو المفتاح الأول للمعركة من أجل السيادة، ولو كانت سيادة نسبية. فلا مجال لأي سيادة عندما تكون البلاد غير قادرة على تأمين الحاجيات الغذائية لشعبها، سواء بسبب سوء التصرف أم نتيجة الضغوط الخارجية مثل تداعيات الحرب في أوكرانيا أو كانعكاس لحالة الجفاف التي تهدد المحصول الزراعي في تونس لهذا العام.

المفتاح الثاني نحو تعزيز السيادة يبقى بالطبع سياسيا ودبلوماسيا. ومفهوم السيادة التي يتوجب على الدولة الدفاع عنها مسألة معقدة.

على سبيل المثال هناك أبعاد عدة لمسألة الهجرة غير الشرعية في ما يخص تونس. تشعر بعض الدول الأوروبية، منها إيطاليا على وجه الخصوص، بأن قوارب الهجرة غير الشرعية التي تتوجه صوب ترابها انطلاقا من سواحل تونس تمثل تهديدا لأمنها. و لا أحد يجادل في حق إيطاليا وغيرها في حماية حدودها، ولكن الحل لن يكون إلا بالتعاون المبني على المصلحة المشتركة وليس بالتنازع على السيادة أو محاولة فرضها بالقوة.

إلى جانب ذلك تبدو السيادة الترابية بعدا ثانويا فقط في معالجة قضية الهجرة غير الشرعية، إذ يختلط البعد الأمني لاختراق الحدود الدولية من قبل المهاجرين مع عديد الاعتبارات الأخرى مثل الأوضاع الاجتماعية الصعبة لتونس ومواقف الدول الغربية من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وحتى تجاه السياسات الداخلية لتونس.

في خضم هذه الاعتبارات المتداخلة تحتاج تونس للبحث مع شركائها في شمال المتوسط عن حلول مشتركة لمشكل الهجرة غير الشرعية مع الحفاظ عما تراه مكونات لا نزاع فيها لسيادتها.

يبقى نجاح تونس في الامتحان الدبلوماسي مرتبطا في نهاية المطاف بقدرتها على توظيف العلاقات الخارجية للدولة من أجل تحسين شروط التفاوض من دون السقوط في التبعية والارتهان.

خيط رفيع في هذا المجال يفصل بين الانخراط في المواجهات الديماغوجية، من جهة، والتخلي عن استقلالية القرار و عن المقومات الأساسية للسيادة، من جهة أخرى.

وفي نهاية التحليل تبقى لرئيس الدولة، في أي عهد وفي ظل أي نظام كان، صلاحية تقدير الموقف ووضع الخطوط الحمر التي لا تقبل الدولة بتجاوزها. و تبقى المصلحة العليا للوطن والمواطن هي العامل المحدد في القرار الذي تتخذه السلطات بغض النظر عن الشعارات السياسية في الداخل.

أساس السيادة هو الحفاظ على هيبة الدولة في وجه الضغوط الخارجية، وذلك أيا كانت الهنات والمصاعب التي تعترض البلاد في الداخل والتي من شأنها ان تخلق انطباعا بعكس ذلك.

ذلك رهين وعي قادة الدول بالقوة المعنوية الكامنة لديهم حتى إن غابت عنهم الوسائل المادية أو بدا ميزان القوى لغير مصلحتهم. 

من الأمثلة على ذلك مبادرة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة باستدعاء السفير الأمريكي إلى مكتبه سنة 1985 ليحذره، بعد قصف إسرائيل مقر منظمة التحرير الفلسطينية قرب العاصمة التونسية، من أن تونس ستقطع علاقاتها مع الولايات المتحدة إن هي استعملت حق الفيتو ضد لائحة لمجلس الأمن الدولي تندد بالاعتداء الإسرائيلي. وقد أتى التحذير في نهاية المطاف أكله إذ احتفظت أميركا بصوتها ولم تعترض على اللائحة. واستطاع بورقيبة رفع التحدي حتى وإن لم يستعمل سوى القوة المعنوية لفرض احترام سيادة بلاده من قبل دولة عظمى.

مرت عقود منذ ذلك التاريخ ولكن تونس لا يزال لديها الزاد المعنوي الكافي للدفاع عن سيادتها، وذلك من دون الخروج عن نطاق التصور الواقعي لقدراتها ووعي مسؤول بمختلف التحديات التي تواجهها. 

لكن التحدي الأساسي نحو ترسيخ سيادتها قد يكون هو ترتيب شؤون بيتها الداخلي.  فمن هناك سوف ينطلق تعامل الآخرين معها.

شاهد أيضاً

إنصاف «الأونروا»

بقلم: وليد عثمان – صحيفة الخليج الشرق اليوم- لم تكن براءة وكالة الأمم المتحدة لغوث …