الرئيسية / منوعات / الشيخوخة.. تسونامي ديموغرافية في اليابان

الشيخوخة.. تسونامي ديموغرافية في اليابان

الشرق اليوم- ستبدأ الشعور بالشيخوخة مع اكتساح التجاعيد والخطوط الدقيقة بشرتك، في الألم الذي يصيب ركبتك وأغلب مفاصلك، في الشيب الذي يغزو شعرك .. لكن الدول تشعر بها في عدد وأعمار سكانها. 

تعد اليابان من أسرع البلدان شيخوخة على وجه الأرض، وتشاهد منذ سنوات في شوارع طوكيو العديد من كبار السن لكنك لا ترى أطفالاً بنفس العدد،  وهي الأزمة التي تعتبرها الحكومة أزمة وطنية تزداد سوءاً مع عدم رغبة اليابانيين في إنجاب الأطفال، فوجودهم أمر ثانوي وعبء اقتصادي ثقيل والكثير منهم يجدون صعوبة في التوفيق بين الواجبات العائلة وبين ضغوط الحياة الحديثة.

مع تغير وجه البلاد في العقود الماضية وأنشغال اليابانيين بضغوط الحياة اليومية أصبح التوتر يغمر الحياة،  والرغبة في الإنجاب تتراجع منذ سنوات وتقود المجتمع إلى أن يكون نصف سكانه عُزّب في عام 2040، وبحسب الاحصائيات فإن ربع النساء في أعمار الثلاثينيات عازبات ونصفهم ليس لديهم الرغبة في تأسيس عائلة وانخفض عدد المواليد الجدد بنحو 800 ألف طفل في 2022 إلى 2.09 مليون طفل فقط، وهو تراجع لم يكن يتوقعه الخبراء حتى عام 2030

من المعروف أن معدلات المواليد آخذة في الانخفاض في العديد من البلدان المتقدمة، لكن في اليابان فإن المشكلة تعد حادة بشكل خاص لأنها تضم ثاني أعلى نسبة في العالم من الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا وأكثر، بعد ولاية موناكو  وفقًا لبيانات البنك الدولي.  فيما يشكل اليابانون الذين تزيد أعمارهم عن 75 عاماً نسبة 15% من سكان البلاد. واللافت أن الناس هناك يفضلون العيش بلا عائلة مع ارتفاع التكاليف المعيشية، وبحسب الخبراء فان استمرار الاتجاهات الحالية تعني إن عدد سكان اليابان سينخفض من 128 مليوناً في عام 2017 إلى 50 مليوناً في عام 2100.  فكيف ستواجه بلاد الشمس المشرقة هذا التغيير الهيكيلي الاجتماعي السريع ولماذا حدث هذا التغيير من الأساس؟

لطالما سمعنا عن مثالية اليابان كدولة متقدمة تعتمد “النظام  والالتزام” في كل الجوانب التي تحيط بها، حتى باتتا كلمتي السر في ذلك المجتمع، يسير الناس في كل مفصل من حياتهم ضمن حدود “النظام “، يشعر به أي زائر يدخل أسوارها منذ لحظة خروجه من أبواب المطار واستنشاقه هواء ذلك البلد الشرق آسيوي وبدء احتكاكه باليابانيين سواء في التزام السيارات بالأنظمة المرورية، التزام المواصلات العامة بالمواعيد بشكل مبهر يصل إلى حد الدقة بـ “الثواني” وليس بالدقائق، النظافة التامة التي تجعل السائح مندهشاً من قدرة البشر على التحول إلى رقيب ذاتي على السلوك الذي يعكس حجم احترام الناس للقوانين والأنظمة.

يُعرف عن اليابانين أنهم منضبطون للغاية ومنغمسون حد الذوبان في العمل الجاد ولساعات إضافية عالية ومن المعروف أيضا بأن كثرة العمل وهو ما يعرف بظاهرة ” كاروتشي” من أحد أبرز أسباب الوفاة في اليابان وتحصد هذه الظاهرة نحو 2000 ياباني سنوياً.  ولعل هذا الانغماس في الحياة الجادة أحد أسباب أن اليابانين قلما يبتسمون!

يعود انضباط أحفاد الساموراي إلى مفهوم “إيكيغاي” المنتشر في هذا المجتمع الذي يسعى إلى المثالية ورغم انه لا توجد ترجمة واضحة لهذه الكلمة إلا إنها تعني الشعور بالسعادة المطلقة في عيش حياة ذات مغزى وقيمة حقيقية حتى لو كان بعيداً عن تحقيق المال.  فـكلمة “إيكي”، تعني الحياة، وكلمة “غاي”، تصف قيمة الشيء.

عملت اليابان وبسعي دؤوب طول العقود الماضية على تعظيم قدرات الفرد بهدف الوصول إلى مجتمع مثالي تستند قاعدته على التصنيع،  ساعدها في ذلك الامتثال الشديد للتوجيهات الحكومية وأيضا للتقاليد الثقافية والمورثات التي طالت حتى الأسرة الحاكمة التي تعد أقدم ملكية وراثية مستمرة في العالم، فاليابان تحكمها ذات الأسرة منذ ألف عام  ويعد الإمبراطور هو “رمز الدولة ووحدة الشعب ” .

تقف اليابان اليوم في قمة الهرم الاقتصادي العالمي، فهي ثالث أكبر اقتصاد في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي الاسمـي، ورابع أكبر اقتصاد من حيث القوة الشرائية، وثاني أكبر اقتصاد متقدم في العالم، وهي عضو في مجموعات الـ G7  وG20.

تعد بورصة اليابان سادس أكبر بورصة في العالم من حيث القيمة السوقية بـحجم وصل إلى 5.67 تيرليون دولار بنهاية الربع الأول 2023،  تحتل مراكز متقدمة في قائمة أكبر المصدرين عالمياً، ولديها ثاني أكبر احتياطي من العملات الأجنبية في العالم بقيمة 1.3 تريليون دولار، وتحتل المرتبة 29 في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال التجارية، والخامسة في تقرير التنافسية العالمية. وتعد أيضاً ثالث أكبر سوق استهلاكي في العالم، وثالث أكبر دولة في العالم لتصنيع السيارات، وتقود العديد من إجراءات براءات الاختراع العالمية.

ووفقاً لصندوق النقد الدولي، فقد تخطى نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد  41,600 دولار في 2020.

منذ منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية تم توجيه الرجال بشكل صارم إلى العمل، وكان موقع النساء في البيت لتربية الأطفال ، وظلت الأولوية دائما للعمل والمؤسسة العائلة فقط .

استطاعات اليابان لملمة جراح الحرب خلال عقد من الزمن فقط، ساعدها الانضباط الذي تشكل عليه اليابانيون في عهد الإمبراطور الميجي الذي بنى اليابان في فترة ما قبل الحرب وجعلها في مصاف القوى العظمى، ساعدها أيضا تضارب المصالح الأميركية مع الشيوعية وانشغالها بالحرب الباردة مع روسيا فكانت واشنطن بحاجة إلى استقطاب اليابان إلى جانبها وخلق شوكة بلد رأسمالي في وسط المد الشيوعي في تلك الفترة فجاء ذلك لصالح اليابان. 

لكن المعجزة الاقتصادية في التسعينيات من القرن الماضي تحطمت على صخرة أزمة العقارات وانهيار الأصول بسبب التضخم الكبير نتيجة سنوات من الأموال الرخيصة واضطرار بنك اليابان لتغير سياسته بشكل مفاجئ ورفع أسعار الفائدة، كل هذه العوامل قلبت الأحوال وتسببت في انهيار الأسعار  ودخلت اليابان في عهد ما سمي بالعقود الضائعة!

انعكس هذا السقوط على نمط الحياة وأضطرت النساء إلى الدخول في سوق العمل لدعم العائلة وهذا بالنتيجة تسبب في إمتلاء الوظائف وارتفاع المنافسة وأصبحت القوانين القادمة لا تناسب العالم الحديث وطغت قوانين جديد على السطح أثقلت كاهل الأسرة اليابانية. وأصبحت “الوظائف” وكيفية الحفاظ عليها تحتل الأولولية بدلاً من العائلة!

ورغم أن اليابان تعد واحدة من أكثر مدن العالم حيوية بالإضافة لكونها بلد قوي اقتصادياً، لكن شيخوخة السكان بمعدل لا مثيل له مقارنة بالدول الصناعية الكبرى وانخفاض أعداد المواليد الجدد من أكثر ما يشغل بال الحكومة، وتخشى بأن يؤثر هذا التحول التاريخي على قدرة البلاد في الحفاظ على وظائف المجتمع مع تراجع أعداد العمالة الكافية لدعم الإنتاجية التي ستنعكس تداعياتها لاحقاً على الاقتصاد في نهاية المطاف.

تسعى الحكومة اليابانية لتشجيع اليابانيين على انجاب الأطفال من خلال تقديم محفزات  وبدلات سنوية للأزواج الذين لديهم طفل تصل إلى نحو 600 دولار شهرياً. لكن من دون بنية تحتية مجتمعية متينة فأن هذه المحفزات تبدو غير  كافية لجعل الأسر  تشعر بالأمان لإنجاب الأطفال.

مشكلة عدم الحفاظ على التركيبة الاجتماعية في اليابان والتي تثير قلقاً اجتماعياً عميقاً تطرح تساؤلاً حول قدرة المجتمع المثالي الذي دخل أسوار الشيخوخة بخطى ثابتة، على الحفاظ على مكتسباته التي طالما أبهر بها العالم وكيف سيواجه هذا الخطر، وهل ستنفع تحركات الحكومة لعكس الاتجاه الديموغرافي  ورأب هذا الصدع أم أن الستونامي الديموغرافي قد ضرب ضربته ووصل بالبلاد إلى نقطة اللاعودة؟

المصدر: CNBC

شاهد أيضاً

الامتناع عن الافطار يزيد من خطر الإصابة بالجلطة الدماغية

الشرق اليوم- كشفت دراسات عديدة أن توقيت الوجبات وتكرارها يرتبطان بخطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية …