الرئيسية / مقالات رأي / القانون الانتخابي الجديد في العراق: عندما ينتصر الفاشلون (2 من 2)

القانون الانتخابي الجديد في العراق: عندما ينتصر الفاشلون (2 من 2)

بقلم: عقيل عباس – النهار العربي

الشرق اليوم- تتصرف الطبقة السياسية العراقية الحاكمة بحسّ متصاعد بالثقة بأنها انتصرت على خصومها الكثيرين، المنظمين منهم وغير المنظمين، من صدريين وتشرينيين وقسم كبير نسبياً من جمهور عام غاضب لا تمثيل أو صوت سياسي له. يمثل نجاح هذه الطبقة مؤخراً في إمرار تعديلات أساسية على قانون الانتخابات لجعله يتسق مع مصالحها ويساهم في بقائها في سدة الحكم أحد مظاهر هذه الثقة بأن المجتمع هذه المرة لن يعترض على نحو عملي يقلق هذه الأحزاب، حتى برغم الرفض الشعبي الواسع للقانون الجديد المعدل. أشد ما يقلق أحزاب الطبقة السياسية الحاكمة حركةُ احتجاج شعبي واسعة شبيهة بحركة “احتجاج تشرين” في 2019.

فهمت الأحزاب الحاكمة أن فشل المجتمع في تنظيم مثل هذا الاحتجاج الواسع ضدها على أنه علامة مؤكدة على تراجع المعارضة لها، وبالتالي انكفاء الخطر الذي يهدد هيمنتها على السلطة، بما تتضمنه هذه الهيمنة من كيفية إدارتها الفئوية لمؤسسات الدولة وموارد البلاد. يكمن هنا الخطأ الفادح الذي تقع فيه الأحزاب الحاكمة التي يتصدرها الإطار التنسيقي، الكتلة الشيعية الأكثر نفوذاً بين هذه الأحزاب والمسؤولة الأولى عن اتخاذ القرارات الحاسمة ووضع السياسات الأساسية التي أوصلت إلى الوضع الشديد البؤس الذي يعيشه العراق في الوقت الحاضر. هذا سوء فهم شديد. يقوم سوء الفهم السلطوي هذا على افتراض مغلوط مؤداه أن المجتمع لا يطور أدوات معارضته لها وأنه يبقى محكوماً بالشكل التقليدي للاعتراض: الاحتجاج في الشارع.

في الحقيقة، واحدٌ من أهم التطورات غير المعلنة التي مرت بها حركة الاحتجاج التشرينية هو نضجها البطيء على مدى العامين الماضيين وفهمها التدريجي لمَواطن ضعفها واحتمالات قوتها. حَدَث هذا بأثمان باهظة. بعد انتهاء الاحتجاج التشريني الهام في ربيع 2020 وتشكّل حكومة السيد مصطفى الكاظمي، هَيمن الاحتجاج كفعل جماعي في الشارع، بأبعاده الرومانسية والأخلاقية والمشهدية، على مخيلة التشرينيين وجزء كبير من الجمهور المتعاطف، بوصفه الأداة الفعالة والمناسبة للتغيير وإصلاح النظام السياسي، بل وحتى اطاحته إذا رفض الإصلاح! قاد مثل هذا الفهم المثالي للاحتجاج والتمسك به كلحظة استثنائية جماعية حيث التقاء النقاء الأخلاقي المفترض، البعيد عن “وساخة” السياسة وصفقاتها المصلحية الأنانية، بالإنجاز الاجتماعي عبر تشكيل هوية عامة جديدة تتمحور حول الوطنية العراقية غير “الملوثة” بالهويات الفئوية، الطائفية والعرقية، التي رسختها واستفادت منها الطبقة السياسية الحاكمة… قاد إلى تمسك معظم التشرينيين بهذه اللحظة الاستثنائية ذات القيمة التعريفية العظيمة ورفض مغادرتها ومقاومة البناء عليها سياسياً وحزبياً.

أعاق هذا الموقف الرومانسي النضوجَ السياسي لـ”تشرين”، إذ أنتج فهماً انتقائياً ومواقف سلبية الطابع بخصوص كيفية صناعة التغيير، مثل سياسات المقاطعة الانتخابية والإصرار على أن التغيير الوحيد الممكن هو عبر الشارع وشيطنة الأقلية التشرينية التي دخلت السياسة عبر بوابة انتخابات تشرين الأول (أكتوبر) 2021 وفرض معايير قاسية وغير واقعية في تقييم أدائها السياسي. لحسن الحظ، بدأ هذا الجانب الطهراني، المُهيمن في “تشرين”، بالتراجع تدريجياً ليضعف زخمه على امتداد أكثر من عام، خصوصاً بعد نجاحه في تنظيم مقاطعة واسعة لانتخابات 2021 استناداً إلى فرضيات مغلوطة مؤداها أن الانتخابات لا يمكن أن تنتج تغييراً لأنها لا يمكن أن تكون نزيهة في المقام الأول. أثبتت انتخابات 2021 خطأ هذا الافتراض، إذ كانت الانتخابات نزيهة وخسرت معظم أحزاب السلطة فيها. ما منع خسارة حاسمة، وعلى الأكثر، نهائية لهذه الأحزاب هي المقاطعة الواسعة التي دعا إليها الكثير من التشرينيين. كانت أحزاب السلطة من أكبر المستفيدين من هذه المقاطعة، فيما كانت الأحزاب التشرينية الناشئة أكبر الخاسرين. عملياً، استطاع الإطار التنسيقي التشبث بالسلطة والعودة إليها تالياً بسبب هذه المقاطعة وما عنته من سلبية سياسية تشرينية.

الافتراض المغلوط الثاني الذي تبناه تشرينيون متحمسون كثيرون والمرتبط بالافتراض الأول، هو قدرتهم على تنظيم احتجاج كبير وكاسح يفوق في قوته ومداه احتجاج تشرين الأصلي. حاول هؤلاء المتحمسون الثورويون تنظيم مثل هذا الاحتجاج بضع مرات على مدى عامين تقريباً لكنهم فشلوا. بعيداً عن الأسباب المختلفة والمتداخلة لهذا الفشل، وبعضها مرتبط بالمطاردة الميليشياوية والأمنية، فيما بعضها الآخر بسوء فهم هؤلاء التشرينيين لديناميات الحركات الاحتجاجية الشعبية الناجحة وبالتالي مبالغتهم بخصوص ما يستطيعون إنجازه، ساهم هذا الفشل كثيراً في فرض حسّ بالواقعية لدى الكثيرين من دعاة الخيار الاحتجاجي الرافضين للتنظيم الحزبي والدخول في العمل السياسي، ودفعهم تدريجياً للقبول بالخيارات الحزبية والسياسية كسبيل لإحداث تغيير في بنية النظام السياسي عبر مؤسساته وليس خارجها. هذا تطور مهم ينبغي الاستثمار فيه جدياً وتعميقه والبناء عليه.

من هنا يكتسب إمرار الأحزاب السياسية الحاكمة مؤخراً القانون الانتخابي الأخير الجائر معنى الاختبار الحقيقي، غير المقصود، لنضج “تشرين” السياسي وقدرتها على تجاوز ردود الأفعال العاطفية والمتسرعة على هذا القانون. لأن هذا القانون يشتغل لصالح الأحزاب، خصوصاً الكبيرة، عبر تسجيل قوائم انتخابية منظمة، فإنه يوفر حافزاً إضافياً للتشرينيين لتسريع دخولهم في العملية السياسية وتطوير قدراتهم على التنظيم الحزبي والتنافس الانتخابي. في الحقيقة، بمقدور التشرينيين أن ينافسوا أحزاب السلطة ويهزموها انتخابياً لأن المواد الأولية اللازمة للنجاح متوافرة لديهم أكثر من خصومهم السلطويين: جمهور عام غاضب من أحزاب السلطة بما يعنيه هذا من استعداد شعبي ضمني واسع لتصويت عقابي ضد هذه الأحزاب، وسجل فشل طويل وعميق في أداء هذه الأحزاب على مستوى المحافظات، خصوصاً في قضايا الفساد وسرقة المال العام، يمكن استثماره انتخابياً ضدها. ما يحتاجه التشرينيون هو أولاً التعالي على خلافاتهم الداخلية وبناء جبهة موحدة بآليات اتخاذ قرار ديموقراطية وشفافة وتنظيم أنفسهم في قوائم انتخابية رصينة يُنتقى أعضاؤها بعناية، ويمكن النظر إليهم كبدلاء جيدين بالمقارنة مع مرشحي أحزاب السلطة.

حتى فارق المال السياسي والنفوذ المؤسساتي الذي تتمتع به أحزاب السلطة يمكن تحييده أو التخفيف كثيراً من أثره على أقل تقدير. في انتخابات تشرين الأول 2021 لم تستطع هذه الأحزاب تحقيق الفوز حتى مع امتلاكها الأموال والنفوذ والسلاح الميليشياوي، بل كان تأثير المقاطعة التشرينية حاسماً في مساعدتها للحصول على مقاعد وأكبر بكثير من تأثير أدوات قوتها التقليدية هذه. هذا هو الدرس الأهم من انتخابات تشرين الأول الماضية. القانون الانتخابي الحالي يعطي هذه الأحزاب بضعة مزايا لم تكن موجودة في القانون الانتخابي السابق. لكن يمكن تجاوز هذه المزايا إذا استثمر التشرينيون في هدف مشترك واحد كان هو الدافع الأساسي لاحتجاجهم الباسل والنبيل في 2019: إزاحة الأحزاب السياسية الحاكمة التي حولت العراق الى بلاد بائسة ودولة فاشلة وبالتالي إعادة الدولة الى مهمتها الأساسية والأخلاقية وهي خدمة المجتمع والدفاع عن مصالحه وليس سرقته وتبديد مستقبله، كما تفعل أحزاب السلطة. أضاع التشرينيون فرصة ثمينة بعدم دخولهم جدياً في انتخابات 2021. عليهم ألا يكرروا الخطأ في الانتخابات المقبلة.

شاهد أيضاً

إنصاف «الأونروا»

بقلم: وليد عثمان – صحيفة الخليج الشرق اليوم- لم تكن براءة وكالة الأمم المتحدة لغوث …