الرئيسية / أخبار العراق / حرب العراق والدولة الوطنية

حرب العراق والدولة الوطنية

بقلم: حسام ميرو –صحيفة الخليج

الشرق اليوم– ما زالت التجربة العراقية المرتكزة على لحظة سقوط الدولة والنظام العراقيين، بفعل الغزو الأمريكي في عام 2003، تنضح بالدروس، وتعمّق الحاجة إليها، في منطقة مثل منطقتنا، يبدو فيها التراكم المعرفي ضعيفاً، حيث يتمّ تجاهل الأسباب البنيوية العميقة للظاهرة التاريخية، واستبدالها بسرديات أيديولوجية، مريحة للذات، إذ تجنّبها مخاطر الخوض في المساءلة، والاعتراف بالأخطاء التاريخية، التي أدّت إلى ما وصلت إليه، وهكذا، فإن أهمية استعادة التجربة العراقية، تكمن في استبعاد القراءة الأيديولوجية، لمصلحة قراءة منهجية في المنظومة السياسية، وفي مقدّمتها منظومة الدولة.

 التفكير المنهجي في ماهية الدولة، ومحاولة الإجابة عن سؤال ما الدولة، ليس مسألة فكرية وحسب، بل هو أيضاً سؤال التطوّر التاريخي للمنظومة التي تنتج الدولة نفسها، ومساءلة للنخب، والعقل الذي يقف وراء الدولة، كما لا يمكن تغييب الأسس القانونية الحاكمة للدولة، في علاقتها بمواطنيها، أو علاقاتها مع المؤسسات الإقليمية والدولية، لكن يبقى للتركيز على تحليل الدولة، بوصفها الأسّ العقلاني، هو التحليل الأقدر على مقاربة خيارات الدولة في تعاملها مع جملة التحدّيات والأزمات التي تتعرّض لها.

 وخلال مسيرة الدولة العراقية في ظل حكم نظام البعث، كان منطق الحرب هو الحاكم لعقلية النظام، فمنذ عام 1980 ولغاية سقوط العراق في 2003، كان العراق فعلياً في حالة حرب مع الخارج، وإذا كانت الحرب ضرورة في المنطق الإمبراطوري للدول العظمى، فإنها ليست كذلك، بالنسبة إلى الدول ذات الفعالية الضعيفة في سوق العمل الدولي، خصوصاً إذا كان اعتمادها الأساسي على الريع المالي من فوائض الثروات النفطية، كما في حالة العراق، الذي أفقدته الحروب المتتالية، القدرة على استثمار العوائد المالية في إحداث نهضة في البنى الإنتاجية، بل وأهدرت تلك الثروات في حروب لم تقدّم للعراق والعراقيين سوى تدهور أوضاع دولتهم واقتصادهم ومعيشتهم.

 ولضرورات الحرب مع الخارج، تضخّمت المؤسسة العسكرية والأمنية العراقية، على حساب اضمحلال ونقص فعالية الجهاز البيروقراطي للدولة، مع ذهاب القسم الأكبر من العوائد المالية الكليّة للخزينة العامة إلى المجهود العسكري، وحرمان قطّاعات التنمية، بفروعها المختلفة، من هذه العوائد، وقد وصل العراق بعد انسحاب قوّاته من الكويت، إلى حالة من النقص المرعب في الغذاء والدواء، وقد اضطّر للخضوع إلى برنامج “النفط مقابل الغذاء” الخاص بالأمم المتحدة، لإطعام الشعب العراقي، إذ تشير إحصاءات عدة، إلى أن ضحايا الجوع ونقص الدواء في العراق، في عقد التسعينات، وصل إلى مئات الآلاف من المواطنين، خصوصاً الأطفال.

 مركزة السلطات في الدولة العراقية، وغياب التعدّدية السياسية، دفعت بمعارضي النظام إلى المنفى، ومن ثم إلى بناء تحالفات مع قوى إقليمية ودولية، بهدف تغيير النظام السياسي، وقد اتضّح لاحقاً أن هذه القوى المعارضة، بسبب غيابها الطويل عن العراق، وارتباطاتها الخارجية، وعدم ممارستها للحكم، لم تتمكّن من إنتاج أساس عقلاني للدولة، بل أنها ذهبت، منذ قدومها للسلطة، إلى خيارات مبنية على ردّ الفعل، وليس على دراسة للخيارات الأفضل في إدارة شؤون الحكم، حيث قامت بإقرار حلّ الجيش السابق، وإصدار قانون “اجتثاث البعث”، وعوضاً عن إنشاء نظام تعددي ديمقراطي بدلالات الوطنية والمواطنية، وعلمنة الدولة في بلد متعدّد إثنياً ودينياً ومذهبياً، اختارت نظام المحاصصة الطائفية.

 وبدلاً من دراسة الآثار التدميرية لهدر الثروات والأموال في النظام السابق عبر الحروب، وبناء نظام لحوكمة الدولة والمؤسسات، والنهوض بالبنى التحتية العامة، بما يسمح بنشوء قاعدة إنتاج وطنية، بحيث يتم استثمار الريع النفطي في قطاعات العمران والصناعة والزراعة والتعليم والخدمات، فقد مضى النظام الجديد في تكريس هذا الهدر، وتعميم الفساد، بحيث أصبح ظاهرة ودينامية في الوقت ذاته، حيث حاز العراق في السنوات العشرين الماضية موقعاً متقدّماً في قائمة مؤشر مدركات الفساد العالمي.

 الدولة الوطنية هي بالتعريف دولة حديثة، أي أنها دولة عقلانية، قائمة على علاقات منطقية، كما تلك التي تحكم معادلة الموارد والإنفاق، بحيث لا يتجاوز الإنفاق حجم الموارد، أو استثمار الفوائض المالية في مشاريع إنتاجية مستقبلية، وعدم السماح بتضخم المؤسسات على حساب الدور المنوط بها، والسعي نحو تصفير الهدر الحكومي، ووضع قوانين تحدّ فعلياً من تعميم الفساد، وعدم تحوّله إلى ظاهرة، وغير ذلك في هذا المنحى العقلاني.

  بعد عشرين عاماً من سقوط النظام السابق، لا تزال الدولة الوطنية هي الغائب الأكبر، لكن غياب الأسّ العقلاني للدولة لم يكن ظاهرة عراقية فريدة، بل ظاهرة أوسع في المحيط الجيوسياسي، وهذا ما تقوله دروس السنوات القليلة الماضية.

شاهد أيضاً

روسيا التي لا تساند أحداً… علاقة غير عادلة مع إيران

بقلم: يوسف بدر – النهار العربي الشرق اليوم– في مقالته في صحيفة “وول ستريت جورنال” …