الرئيسية / الرئيسية / اللعبة الكبرى في أوكرانيا… “أحلاف الوفاق” و”فراغ القيادة” العالمي

اللعبة الكبرى في أوكرانيا… “أحلاف الوفاق” و”فراغ القيادة” العالمي

بقلم: محمد حسين أبو الحسن – النهار العربي

الشرق اليوم- على مدى القرون الثلاثة الأخيرة تعرّضت خريطة أوروبا القديمة للتمزيق وإعادة التركيب بواسطة النار والدم، مرّات ومرّات. يصف المفكر عبدالله العروي الأمر، قائلاً إن “أوروبا عبارة عن قطع متناثرة، جُمعت بعناية من وسط الرعب والحروب، فالجغرافيا الأوروبية في تاريخها المعاصر ليست سوى نهاية مرحلة من المعاناة والحروب والنضال”. اليوم تعيش أوروبا كابوساً مروعاً، يرجع الماضي إلى الحاضر، ليعيد تشكيل المستقبل، تنهمك روسيا والولايات المتحدة في إعادة بناء معادلة الجيوبوليتيك فوق الأراضي الأوروبية، تدخل الصين على الخط، بينما تضج بقية دول العالم وجعاً وقلقاً، خشية تفلت الصراع الأوكراني إلى فوضى عالمية تعصف بالجميع.

مرحلة جديدة

بعد أيام من اختتام مؤتمر ميونيخ للأمن، وما دار في غرفه المغلقة من مفاوضات سرية بين القوى الكبرى، تقدمت الصين بخطة لوقف الحرب وإحلال السلام في أوكرانيا، تتكون من 12 بنداً: “احترام سيادة جميع البلدان، والتخلي عن عقلية الحرب الباردة، ووقف الأعمال العدائية، واستئناف محادثات السلام، وحل الأزمة الإنسانية، وحماية المدنيين وأسرى الحرب، والحفاظ على أمان محطات الطاقة النووية، والحد من المخاطر الاستراتيجية، وتيسير تصدير الحبوب، ووقف العقوبات الأحادية، والحفاظ على استقرار سلاسل التوريد، وتعزيز الإعمار بعد انتهاء الصراع”.

وضعت الأزمة الأوكرانية الصين في موقف حرج، فهي حليفة لروسيا لم تدعم أو تنتقد علناً الغزو الروسي، لكنّها أعربت عن دعمها وشدّدت على وجوب مراعاة مخاوفها الأمنية، مثلما دعت إلى احترام وحدة أراضي أوكرانيا. أكد وزير الخارجية الصيني تشين جانغ أنّ بلاده “قلقة للغاية” من النزاع في أوكرانيا والذي “يكاد يخرج عن السيطرة”.

ردود الفعل على الخطة الصينية جاءت فاترة أو متحفظة، أبدت أوكرانيا رفضاً مبطناً تجاه “الخطة”، قائلة إنها لن تفعل شيئاً سوى تجميد الوضع الراهن. واعتبرها الاتحاد الأوروبي على لسان الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل “مثيرة للاهتمام” غير أنها ليست خطة شاملة تؤدي إلى السلام. وأبدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي “ناتو” ينس ستولتنبرغ، رداً حذراً يبدو أقرب إلى التحفظ منه إلى القبول بالخطة الصينية. وبينما رفضتها واشنطن، اعتبرتها روسيا متوازنة، شريطة أن تخضع للدراسة مؤكدة أن الظروف الموضوعية لتحقيق السلام لم تنضج بعد.

هندسة أمنية

تحاول الصين التوسط في صراع ترى أنه “نتيجة لما تصفه بعقلية الحرب الباردة وهندسة أمنية أوروبية بالية”، في إطار اللعبة الجيوسياسية الكبرى في القرن الحادي والعشرين، للسيطرة على أوراسيا، تحاول بكين كبح الصراع قبل أن يتفلت حرباً عالمية مروعة أو نزاعاً نووياً مهلكاً بين القوى الرئيسية في العالم. تفضّل إطلاق محادثات سلام وإعادة تشكيل الأوضاع الأمنية في أوراسيا. تتمدد “أوراسيا” على مساحة 54 مليون كلم2، وتشمل قارتَي أوروبا وآسيا، بعض الخبراء يقسمون أوراسيا إلى غربية تشمل أوروبا والشرق الأوسط وربما شمال أفريقيا، وشرقية تشمل بقية آسيا عدا الشرق الأوسط. “أوراسيا” قلب العالم ومحور صراعاته منذ فجر التاريخ، ‏تضم 75 في المئة من سكان العالم، ومعظم ثرواته، وتحوي 60 في المئة من الإنتاج العالمي، و3/4 مصادر الطاقة في العالم. جغرافياً، قسم نيكولاس سبيكمان أوراسيا إلى: “قلب قاري” وهو روسيا والتي لها امتداد بري يتجاوز 17 مليون كلم2، وهلال كبير من الدول الساحلية سماها “أرض الحافة” ويشمل أوروبا وشبه الجزيرة العربية، العراق، وآسيا الوسطى، إيران، أفغانستان، الهند، جنوب شرق آسيا، الصين وكوريا.

كلها دول تمتاز بأهمية مواقعها ومواردها الطبيعية والاقتصادية المتنوعة والمهمة.

لكن الصين ليست اللاعب الأول في أوراسيا، وإن كانت أكبر أقطابها، والولايات المتحدة هي الأكثر نفوذاً وتأثيراً في قلب الجيوبوليتيك العالمية، دولة محركة لكثير من تحولات العالم. استطاعت في القرن الماضي تغيير نظام الجيوبوليتيك في الخريطة الدولية، وفقاً لتصور سبيكمان “المحيط المتوسطي”؛ ويقوم على تشابه بين البحر المتوسط في تاريخ أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالنسبة للحضارات القديمة، وبين المحيط الأطلسي بالنسبة للحضارة الغربية بضفتيها الأميركية والأوروبية”، فهو يعتقد أن المحيط الأطلسي (المحيط المتوسطي الجديد) يمكن أن يكون منطقة للحضارة الغربية الحديثة الأكثر تطوراً تقنياً واقتصادياً. ثم يمكن أن تتحدد على ضفتيه كتلة جيوبوليتيكية جديدة تنضوي تحت مسمى القارة الأطلسية!.

رأى سبيكمان أن الحرب العالمية الثانية حدثت للسيطرة على السهوب الأوروبية وما حولها، ومن ثم فهي منطقة الارتطام أي التي تشهد صراعاً من أجل السيطرة على مواردها، وممراتها اعتباراً من العقد الأول للقرن الحادي والعشرين؛ تهدف أميركا من وراء ذلك إلى فصل المحيط الأوراسي عن القارة الأطلسية الجديدة، بخاصة تأثيرات روسيا والصين، في “أوروبا الشرقية”، وبالذات أوكرانيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق، بيد أن هذا السيناريو أوجد قوة كبرى وكتلة جيوبوليتيكية في الطرف الآخر، بالتقارب بين روسيا والصين، بخاصة “دول البريكس”، في محاولة لتشكيل قوة استراتيجية تضاهي قوة القارة الأطلسية، لكنه ليس كافياً لتأسيس كيان حضاري مستقل.

بعد حسم الحرب الباردة بتفوق الغرب على الشرق، تغيرت المنطقة وباتت مركزاً للصراع الدولي بامتياز بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الذي لا يتوقف عن التوسع شرقاً وروسيا الطموحة لمجد جديد‏. أعلنت روسيا بلسان الرئيس بوتين في مؤتمر ميونيخ ذات مرة، استراتيجية التخلص من نتائج الحرب الباردة، لأن الذين تصوروا أنهم ربحوا “يريدون كل شيء”، بينما دعا وزير خارجيته سيرغي لافروف إلى “نظام ما بعد الغرب”، وإعادة بناء “البيت الأوروبي الواحد” من لشبونة إلى فلاديفوستوك، بما يعني إنهاء حلف شمال الأطلسي “ناتو”، عمود الأمن الأوروبي.

ميادين التنافس

اللعبة الجيوسياسية الجديدة بين القوى الكبرى تجعل أوراسيا والعالم ميداناً للتنافس لا التضامن بين الخصوم والحلفاء من أجل المصالح”، وهذا ما يفسر ما يجري في أوكرانيا وما تعانيه أوروبا، نتيجة تعاظم التنافس على المصالح والأدوار على مسرح القارة العجوز، بين أميركا وروسيا والصين. فلا شيء يوحي أن النظام العالمي الجديد مرشح للتبلور سريعاً على أنقاض النظام القديم؛ ففي الغرب الأميركي والأوروبي “فراغ قيادي”، وفي روسيا “امتلاء قيادي” من فوق، يقابله فراغ في القاعدة. وفي الصين طموح قيادي كبير مع إمكانات اقتصادية واسعة وإمكانات عسكرية محصورة في الجوار، وحرص على حكمة كونفوشيوس أكثر من ايديولوجية ماو.

على وقع الحرب في أوكرانيا يظهر نمط من التحالفات الدولية، له خاصيتان، الأولى: إنها لا تماثل النمط التقليدي للأحلاف العسكرية في القرن التاسع عشر، لكنها تحالفات استراتيجية ذات أبعاد متعددة، تدور حول التزامات عسكرية وسياسية واقتصادية ترقى إلى نمط الأحلاف المعروفة باسم “أحلاف الوفاق”، أما الخاصية الثانية، فهي تمركز أغلبية هذه التحالفات وقيامها في أوراسيا أو حول أوراسيا‏. كان الأمر بحاجة إلى بطل رومانسي، قادر على المقامرة بمصير بلاده وخوض المعركة “أياً كان الثمن”، وجاء الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في الموعد. الشرر المتطاير من برميل البارود الأوكراني، في بداية عامه الثاني، مرشح للانتشار في كل الاتجاهات شرق أوروبا وغربها، بحر قزوين والشرق الأوسط حيث مخزن الطاقة العالمي.

كلُّ منطقة من هذه المناطق قد تصير ساحة اشتباكات بين الكبار، للهيمنة على منابع الطاقة أولاً، والتحكم الجيواستراتيجي في المضائق العالمية ثانياً، فالشرق الأوسط وشمال أفريقيا على سبيل المثال -مثل أوكرانيا- جسر يربط بين هذه القوى الكبرى، جسر ضعيف وهش، غير قادر بذاته على بناء كتلة جيوبوليتيكية متماسكة، بل سيظل في السنوات الخمسين المقبلة “فضاء للخارج”، لذا فالمطلوب أن تظل تلك المناطق اللينة بوتقة أزمات من كل نوع. أما الأوروبيون الذين ابتلعوا الطعم، فعلى الأرجح أن يواصلوا تخبطهم إلى أن تجبرهم الأزمة على تغيير نهجهم، لكن بعد فوات الأوان.

يقول الفيلسوف جورج سانتايانا: “إن هؤلاء الذين لا يتعلمون من التاريخ محكوم عليهم بتكراره”.

وذاك حديث آخر…

 

شاهد أيضاً

السوداني يستقبل في واشنطن وفد إدارة بنك جي بي مورغان

الشرق اليوم– استقبل رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، مساء أمس الأربعاء، في مقرّ …