الرئيسية / الرئيسية / ستراتيجيكس.. التهديدات اللامتماثلة: دراسة في تحولات استراتيجيات الردع التقليدية

ستراتيجيكس.. التهديدات اللامتماثلة: دراسة في تحولات استراتيجيات الردع التقليدية

بقلم: د. بهاء السعبري و د. فراس الربيعي 

الشرق اليوم- نشر مركز “ستراتيجيكس” للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، ورقة بحثية، تقدم قراءة نظرية لتنامي التهديدات اللامتماثلة وتداعياتها على الأمن والسلم الدوليين، والتي فرضت تحولات على مفاهيم ونظريات الأمن المتبعة منذ عقود وخاصة نظريتي الردع وتوازن القوى، ما أصبح يتطلب بالضرورة إعادة البحث في استراتجيات جديدة للردع على الساحة الدولية.

أدناه النص كما ورد في موقع المركز:

تشهد البيئة الأمنية العالمية حالة من عدم الاستقرار بسبب جملة من التهديدات اللامتماثلة، التي أدت إلى تغيير المفاهيم التقليدية للحرب والسلام والصراع على كافة المستويات، وأوجدت ما بات يُعرف بـ”المنطقة الرمادية”، التي أصبحت تتصدر أولويات الأمن العالمي ذلك أنها أظهرت القدرة على تخطي الأدبيات والنظريات التقليدية التي رسخت لمفهوم القوة وأساليب الردع أو الضبط، كما في نظرية توازن القوى وتوازن الرعب ونظرية الردع، والتي تعتمد بمجملها على العاملين النفسي والمادي.

لكن أدى ظهور التهديدات اللامثماثلة (اللامتناظرة) إلى إيجاد أنماط جديدة من التهديدات خاصة للجهات والمؤسسات الأمنية عبر العالم، ذلك أن النظريات التي أنشأت عليها وسائلها الدفاعية تقف عاجزة أمام ذلك التهديد وحتى استباقه، وهو ما دفع العالم للبحث عن آليات جديدة.

إن اختبار نجاح نظرية الردع بصورة عامة، يتم من خلال إنجاح المتغيرات الأساسية للنظرية، التي تعتمد على المصداقية وتقييم وإدراك التهديد، وتلعب التهديدات وطبيعتها كذلك دوراً في تقييم النجاح للردع أو فشله، وفي ظل التحولات التي تشهدها ظاهرة التهديدات اليوم والانتقال نحو التهديدات اللامتماثلة، أصبح النظام الدولي يواجه مجموعة تهديدات من مصادر متعددة (فواعل من دول أو جماعات، نطاقات داخلية أوخارجية أومختلطة، وسائل تقليدية وغير تقليدية) وهذا التنوع أربك سياسات الدول لمواجهة واستباق التهديدات، حيث أصبحت سياستها عاجزة أمام القدرة على التنبوء بالتهديدات وبناء سياسات ردع قادره على صد هذه التهديدات اللامتماثلة وهنا تحاول الورقة الإجابة على هذا عدد من الأسئلة أهمها: هل ستكون نظرية الردع التقليدية بمقوماتها وشروط إنجاحها قادرة على مواجهة هذا الخطر الجديد من التهديدات؟ وهل المصداقية وطبيعة الخصم وحسابات الكُلف والأرباح ستكون محددات تسير عليها سياسات الردع اليوم لتطبيقها على التهديدات اللامتماثلة؟ وهل تنجح سياسات الردع التي تتبعها الدول في ردع التهديدات اللامتماثلة في المستقبل؟

المحور الأول: دور الردع في مواجهة التهديدات اللامتماثلة

أولا: مفهوم الردع وأساليبه

يُعبر الردع عن سلوك تحكمه مجموعة من الإجراءات، التي تتضمن شروطاً عدة تهدف إلى لتحقيق غايات معينة، ويعرّف الردع بأنه “استغلال القوة المحتملة وإقناع عدو محتمل أن يتجنب القيام بنشاطات معينة لأن ذلك سيكون في مصلحته”.

والردع بالمعنى الاستراتيجي السياسي، يمكن تعريفه بأنه محاولة طرف ما منع طرف آخر من القيام بفعل يرى الطرف الأول أنه ضار به أو لمنع الطرف الآخر من أن يفكر بالقيام بعمل ما أو تصرف أو سلوك معين يمكن أن يشكل تهديدا لمصالح الطرف الأول أو لأهدافه أو لموقعه أو لمكانته.

وأما بالمعنى الوقائي فيعني؛ تحضير الطرف الأول واستعداده لامتلاك الإمكانيات والقدرات والوسائل التي تمنع أي فعل عدائي، وبالتالي توفير أدلة وبراهين للطرف الثاني، حول امتلاك القدرة الثأرية التي تكفل الرد عليه بشدة عند أي محاولة لتهديد الأمن القومي للطرف الأول.

ويتكون الردع من جزئين رئيسيين:

الردع المادي: يشمل كل أنواع القوة وأدواتها التي تكفي لمعاقبة الخصم.

الردع المعنوي أو النفسي: يهدف إلى التأثير النفسي في الخصم من خلال إقناعه بجدوى الاستسلام وأن عدمه يعني ارتفاع عواقب التشبث بالمواقف بشكل لا يستطيع تحمله.

وبذلك فإن قدرات الردع في كافة المستويات، مبنية على معطيات الواقع، حيث يستند على جملة من مقومات القوة المادية والمعنوية، التي يتم توظيفها في الزمان والمكان المناسبين.

وهناك عدة أساليب رئيسية للردع:

1- الردع بالعقاب: ويعني تهديد الخصم بالعقاب إذا ما أقدم على اتخاذ إجراءات يعارضها الطرف الأول. وهذا ما يعرف بالردع عن طريق العقاب وهو الأسلوب الأكثر شيوعاً. وفي الواقع ينتشر هذا الأسلوب كثيراً لدرجة أن بعض تعريفات الردع تفترض ضمنياً أنه الطريقة الوحيدة للردع . فمثلاً يقول العالم في مجال القانون الدولي، باتريك مورجان Patrick Morgan في إحدى كتاباته؛ “الكل يعرف ما هو الردع – إنه استخدام التهديد بالإيذاء لمنع أحدهم من فعل شيء لا تريد منه فعله”.

2- الردع بالحرمان: من خلال تهديد الخصم بحرمانه من مزايا ومصالح كان الطرف الآخر يمنحها إياها أو بالتأثير بأطراف أخرى لمنعها من تقديم هذه المصالح للخصم.

3- الردع بالتطمين: حيث يسعى لإقناع الدول الأخرى بحسن النوايا، مما يخفف من خطر استفزاز الدول الأخرى وحملها على استخدام العنف دفاعاً عن النفس كرد على الجهود الرامية إلى الردع . وقد استخدمت الدول العظمى هذا التكتيك إبان الحرب الباردة خلال مبادرات ضبط التسلح، بما فيها الخط الأحمر والقيود على اختبار الأسلحة النووية ومعاهدتي الحد من الأسلحة الاستراتيجية وتخفيض عددها (Start Salt).

4- الردع بالإغراء: عبر تقديم مزايا جديدة أو مصالح مادية أو معنوية للخصم إذا تخلى عن الإضرار بمصالح الطرف الآخر.

ثانيا: دور الردع في مواجهة التهديدات اللامتماثلة

في نظرية الردع التقليدية، فإن معرفة رغبات الخصم في الاستمرار بالفعل أو التراجع يكون وفق حسابات الربح والخسارة، أما في ظل التهديدات اللامتماثلة فإن حسابات التفضيل وإدراك اتجاهات الخصم تكون غير معروفة أو مجهولة، لذلك يصعب تحديدها، ما يضعف من أدوات ووسائل الردع التقليدي. وقد أصبحت هذه الإشكالية محط اهتمام أغلب الباحثين والمختصين بالشان السياسي والأمني.

فقد أظهرت التهديدات الحديثة صعوبة في تحديد ملامحها على نحو يؤمن الوصف الدقيق لها، وماهية حدودها وأبعادها، فهي وليدة مجموعة من المتغيرات التي أسست لتكتيكات اختلفت بشكل جذري عنها في التهديدات التقليدية، حيث تعتمد على توظيف مجموعة كاملة من الوسائط المختلفة المستخدمة في الحروب بما يشمل القدرات النظامية والتكتيكات غير النظامية والأعمال الإرهابية، بما في ذلك العنف العشوائي والإكراه والإجرام. في مستوى أعلى من التهديد يشار له في الكثير من الدراسات إلى “الحرب اللاتماثلية” Asymmetric War، والتي تتخذ عدة أشكال، يمكن قراءتها ضمن ثلاثة مستويات:

المستوى الميداني: يتميز بكثرة العمليات السرية، ويعتمد على عنصر المفاجأة.

المستوى الاستراتيجي العسكري: يتضمن حرب العصابات أو الحرب الخاطفة.

المستوى الاستراتيجي السياسي: يتضمن الحروب ذات المعطى الثقافي أو الأخلاقي أو الديني.

ويعد التهديد اللامتماثل بصورة مبسطة (النية الصريحة أو المبطنة للتدخل أو الإيذاء أو معاقبة الطرف الآخر ) وعليه؛ فإن التهديد الصريح للدولة أو حتى التهديد الضمني لهـا، يعتبر من التهديدات الأمنية مادام الهـدف مـن التهديد هو إيقاع الأذى أو التدخل في شؤون هذه الدولة، وتكمن شروط حقيقة التهديد في توافـر ثلاثة عناصر هي: (المصداقية والجدية والقدرات) التي تتناسب طردياً مع التهديد وتزيد من خطورته، وهناك ثلاث سمات رئيسية للتهديد، هي: (الخطورة والاحتمالية والتوقيت)،

وقد مكن النهج اللاتماثلي الدول أو الأطراف الأضعف، على امتلاك الوسائل ذات الضرر الكبير، بالرغم من ضعف مقومات القوة الوطنية لديها، ولذلك يُوصف ذلك النهج بـ”سلاح الضعيف”، الذي يُمكن من خلاله مهاجمة نقاط ضعف الطرف الأقوى وإحداث أضرار لديه، وفي هذه الحالة يواجه الطرف الأقوى مستوى غير مسبوق من التهديد نظراً لـ:

1- تهديد غير واضح المعالم، من حيث صعوبة تقييمه وتحديد ما يمكن أن يلحقه من ضرر بالنسبة للدولة.

2- يرتبط بعدم ثبات الإدراك وسرعة تغيره بين الذاتي أو الموضوعي. وهو ما يقود إلى استحالة معرفة إن كانت جهة ما تشكل تهديدا أو لا.

3- أن موازين القوى التقليدية ذات ملامح محددة، أما اللاتماثل فإن كينونتها تختلف من ناحية الفواعل والمستويات التي تؤثر بها في البيئة الدولية وأهمها (الدول، المنظمات، المؤسسات الاقتصادية، الأفراد).

4- تعدد الأدوات المستخدمة في التهديدات اللامتماثلة وفي مقدمتها التكنولوجيا والأسلحة السيبرانية.

وتتميز التهديدات اللاتماثلية بمجموعة من الخصائص وهي:

1- أنها ذات طبيعة غير عسكرية، وشهدت صعوداً في فترة ما بعد الحرب الباردة.

2- تصدر بنسبة كبيرة من فواعل غير دولية (أقاليم، مجتمعات، أفراد).

3- تؤثر على أمن جميع الفواعل.

4- تأخذ عادة شكل الخطر قبل أن تصبح تهديداً لذا فهي غير قابلة للقياس.

المحور الثاني: الردع وتوازن التهديد

انطلاقا من نظرية توازن القوى التي شكلت محورا أساسيا في تفسير ظاهرة العلاقات الدولية، وسعت من خلالها الدول إلى خلق حالة من التوازن النسبي الذي يحقق لها مكاسب متعادلة. لكن في خضم التقدم والسعي الحثيث للدول لتبني سلوكيات وسياسات تحقق لها المصلحة العليا لأهدافها، تغيرت الاتجاهات وزادت نوعية وأحجام التهديدات في بيئة النظام الدولي، ومن هذا المنطلق ركز الباحثون في الشأن السياسي والدولي على وضع أُطر نظرية تفسر وقائع الأحداث وهو ما أسفر عن ظهور مايعرف بـــ (نظرية توازن التهديد).

ترتكز نظرية توزان التهديد على مبدأ اكتساب القوة وتعظيمها من أجل التهديد فقط وليس من أجل الدفاع، والمعيار بين نظريتي توازن القوى وتوازن التهديد، هو الرغبة في امتلاك القوة المنقسمة بين الهجومية والدفاعية، ويمكن بيان تفسير دلالات القوتين تبعا للغايات التي تتوخاها الدول، فالقوة الهجومية هدفها أن توزان التهديد، أما القوة الدفاعية فتسعى لتحقيق مبدأ توازن القوى، وعليه فإن المخرجات الناتجة والناشئة عن اختلال توازن القوى يمكن أن تؤسس إلى تبني اتجاهات نظرية توازن التهديد، كون الأخير يعد توازناً قسرياً وأمراً حتمياً يعطي انطباعات بأن التهديدات إذا لم تصل حد التوزان فستكون مخاطر أمنية تمس الأمن القومي للدول.

وتعد المرحلة الأولى من توازن التهديد حرجة جداً كونها تتعلق بعملية إدراك وتشخيص التهديد بشكل دقيق، وهذا يؤسس لترتيبات لاحقة كون الإدراك واحدا من أهم متغيرات نظرية توزان التهديد، وهذه المرحلة تتطلب القيام بعملية إحاطة شاملة لماهية التهديدات في البيئة المحيطة وفق نماذج تحليلية تحدد حجم التهديد ومستواه ودرجة التأثير والفترة الزمنية المتوقعة لتحول التهديد إلى خطر يمس منظومة الأمن القومي للدولة.

وبهذا المجال فإن النظرة الموحدة لتشخيص التهديد يمكن أن تضع رؤية واضحة وشاملة لتوافر قدرات وإمكانيات توازن ذلك التهديد، وهنا سيكون الردع أحد أشكال هذا التوازن. فإما يكون الردع بامتلاك الدولة لقدرات وموارد وعوامل ومقومات القوة، أو عبر الإذعان والمسايرة وتجنب رفع مستوى التهديد والإجراءات الاستفزازية.

المحور الثالث: استراتيجيات استباق التهديدات اللامتماثلة

بعد معرفة ماهية التهديدات اللامتماثلة والأثار التي تترتب على حدوثها ومدى تأثيرها في الأمن القومي للدول فضلا عن الأمن الإقليمي والدولي والجماعي. سعت الدول إلى وضع مجموعة من الاستراتيجيات لاستباق التهديدات اللامتماثلة للحد من درجة حدوثها وهي:

أولاً: استراتيجية إدراك مصادر التهديدات اللامتماثلة

تعد هذه الاستراتيجية من أهم الاستراتيجيات في استباق التهديد، وتتمحور في إرساء قواعد التعامل مع ما يتم إدراكه من التهديدات اللامتماثلة، فكلما كان ذلك الإدراك شاملا ودقيقا كانت الإجراءات اللازمة لإزالة التهديد أكثر فاعلية واستيفاءً.

وبناء على تحديد المدخلات (مصادر التهديد)، فإن الاستراتيجية تضع مجموعة من الأسس والسياسات الاستباقية، وثُم تعمد على تحليل المخرجات، وبذلك ترتكز هذه الاستراتيجية على عملتين وهما:

1- عملية ترتيب مصادر مخاطر الأمن القومي بحسب أهميتها، التي تستند عليها عملية إدارة مخاطـر الأمـن القومي.

2- دراسة التأثيرات المتبادلة البينية بين جميع مخاطر الأمن القومي للبحث عن المناطق المشتركة التي تُخلق جراء تفاعـل التحديات والتهديدات والمخاطر ونقاط الضعـف مع بعضها البعض، حيث عـدم معرفة المنطقة المشتركة للمخاطر، سيجعل هذه المخاطر عصيـة عـلى الحـل، لأنها ستؤسس لهـا ثقافات وسلوكيات والتزامات سياسية وتدخلات خارجية خاصة بها، كما هو الحال في الدول الهشة أمنياً. وبهذا تنتهي الدراسـة من تحديد المدخــلات، لتبدأ بمرحلة العمـــليات ضـمن منهجية تحليل النظم.

ثانياً: استراتيجية الردع الاحترازي للتهديدات اللامتماثلة

تتمحور هذه الاستراتيجية في توسعة دائرة القدرات التقنية والتكنولوجية فضلا عن القدرات المادية التقليدية والاستخبارية، لتأمين قدرا كبيرا من القدرة على ردع أي تهديدات تمس الأمن القومي للدول. وغالبا ما تتبع بعض الدول المتقدمة والتي تتمتع بإمكانيات هذه الاستراتيجية من خلال تدعيم الإجراءات الأمنية والسياسية الاحترازية لحماية الأهداف والمصالح العليا.

وبطبيعة الحال لا تعد الإجراءات الاحترازية أمراً جديداً، على مستوى الدول وهي تحافظ على أمنها الوطني. لكن الجديد الذي يمكن ملاحظته على مستوى الدول هو تصاعد وتيرة اتخاذ  إجراءات استباقية في الأعوام الأخيرة، وهو ما يرتبط بعدد من الأبعاد، كالآتي:

1- ضرورة وضع الكيفية والوسائل للتعامل مع أحداث مفاجئة وغير متوقعة واتخاذ ما يلزم لاستباق تداعياتها.

2- أن الدول تلجأ الآن لتعزيز استراتيجيات الاحتراز في مواجهة الإرهاب كبديل عن الحروب الاستباقية التي أدت إلى تزايد التطرف وانتشار التنظيمات الإرهابية.

3- أن تدابير الاحتراز يجب أن تتضمن الجمع بين الأدوات الاقتصادية والثقافية بالتوازي مع الأدوات العسكرية والأمنية.

إن الفهم الحقيقي لقيمة الخطر، لا يمكن أن يكون بمعزل عـن فـهـم حقيقـي لعناصر البيئة المحيطة بالأمن القومي وما يرتبط بها من تهديدات، حيث لا يمكن أن يقيم الخطـر لذاتـه فقـط، بمعزل عن مصدر الخطر ومنطقة الاستهداف في الظروف السائدة، كما أن  أخطار وتهديدات الأمن القومي لا يمكن أن تستخلص استخلاصاً دقيقاً ما لم تفهـم عناصر البيئة المحيطة لهذه المخاطر كسياق عـام، ومن ثم تطبيق المنهجية المناسبة لتقييم هذه التهديدات بنمطقها غير المتكافئ، وصولاً إلى ترتيب قائمة بأولويات المخاطر.

ثالثاً: استراتيجية الردع والدفاع الإلكترونية والسيبرانية

تقدم استراتيجية الردع السيبراني وصفا عاما للقدرات الدفاعية للدول، التي باتت تنفق المزيد من مواردها لردع الهجمات السيبرانية المتنامية في السنوات الأخيرة، عبر تأمين القدرة على الصمود في كل من الشبكات الدفاعية والهجومية.

ويكون تركيز استراتيجية الردع السيبراني على قدرة مقاومة الهجمات السيبرانية من خلال تعزيز القدرات السيبرانية التي تحمي البنى التحتية للدول، حيث توصف تلك الاستراتيجية بالمرونة والقدرة على منع الجهات الفاعلة المعادية من شن الهجمات السيبرانية في المقام الأول.

ويتم الردع السيبراني من خلال وضع استراتيجيات مضادة يدرك من خلالها الخصم أنه إذا قام بشن هجوم عبر الفضاء الإلكتروني سيواجه بهجوم آخر مضاد يفوق قدراته، كأن يتم مثلا استهداف البنية التحتية السيبرانية أو أنظمة الاتصالات والأنظمة المالية والمصرفية أو قطع خدمات الانترنت ومن ثم يرتدع الخصم عن محاولة التفكير في الاعتداء أو تكراره، ومثال على ذلك انقطاع اتصالات الانترنت في كوريا الشمالية لنحو عشر ساعات مما أثار تكهنات بأن الولايات المتحدة وراء هذا الحدث.

وليست كل الهجمات الإلكترونية ذات أهمية متساوية حيث لا يمكن ردع كل شيء، وليس كل شيء يصل إلى مستوى التهديدات الأمنية الوطنية. والدرس المستفاد لصانعي السياسات هو التركيز على أهم الهجمات وفهم السياق الذي قد تحدث فيه هذه الهجمات، عبر اتخاذ مجموعة كاملة من الآليات المتاحة لمنعها. إلا أن أكبر مشكلة في الردع الإلكتروني تبقى الردع ذاته على حد تعبير الرئيس الإستوني السابق توماس إلفيس Toomas Ilves. وفي هذا الشأن يطرح المسؤول السابق بالبيت الأبيض وزارة الدفاع الأميركية ريتشارد كلارك Richard Clark وعالم الحاسوب روبرت كناك Robert Knake رأي آخر يتجلى بأن “من بين جميع مفاهيم الاستراتيجية النووية، فإن نظرية الردع هي على الأرجح الأقل قابلية للتحول إلى الحرب السيبرانية”.

كما يجادلون بأن الاعتماد الشديد للولايات المتحدة على الاتصال السيبراني يجعلها عرضة بشكل خاص للهجمات الإلكترونية غير المتماثلة  في العالم الحقيقي، بذلك ينبغي ردع الولايات المتحدة عن الشروع في حرب إلكترونية واسعة النطاق خوفا من الآثار غير المتكافئة التي يمكن أن يحدثها الانتقام على الشبكات الأمريكية.

ويقودنا هذا لبناء تصور علمي مفاده أن فهم الردع في الفضاء الإلكتروني أمر صعب في كثير من الأحيان لأن مفهوم الردع المُستقى من الحرب الباردة، تجسد في ردع الهجوم النووي عبر هجوم نووي آخر مضاد.

في المقابل، فإن العديد من جوانب السلوك السيبراني أشبه بالسلوكيات الأخرى، مثل الجريمة، حيث وسائل الردع في الفضاء السيبراني كالعقاب، والحرمان قد تكون فاعلة. إلا أن الأكثر أهمية من الوسائل الرادعة هو القدرة على التعافي من آثار الهجمات والتهديدات السيبرانية.

رابعاً: استراتيجية استباق وإدارة المخاطر المعلوماتية وحماية المحيط الخارجي

قوام هذه الاستراتيجية هو حماية المحيط الخارجي بالبحث عن الثغرات الأمنية داخل أنظمة التشغيل والمتصفحات وخوادم الويب، حيث يمكن تحديد الشفرات الخبيثة المحتملة من خلال التعرف على التوقيعات والأنماط.

وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية تُمكّن من اتخاذ التدابير الدفاعية التقليدية مثل إصلاح برامج الحاسوب، والضبط الآمن، والحماية الثابتة للمحيط الخارجي، إلا أن تلك الإجراءات ليست كافية لإحباط الهجمات المتطورة والمستمرة، فالاستراتيجية النشطة للحماية السيبرانية يجب أن تضيف إجراءات استباقية قائمة على تحديد وتحليل التهديدات التي يشكلها الخصوم ذوي القدرات العالية والحد منها.

وقد عملت أغلب الدول على اتباع وتبني مجموعة من الاستراتيجيات في استباق التهديدات اللامتماثلة كونها تمتاز بالتعقيد وعنصر المفاجأة وبالتالي فأن تلك الاستراتيجيات تعمل على تخفيف وإزالة حدة التأثيرات التي تخلفها التهديدات اللامتماثلة.

المحور الرابع : مستقبل الردع والتهديدات اللامتماثلة

بعد التأكد من أن الردع يعد وثيق الصلة في كل أشكال المواجهة سواء في الحروب التقليدية أو حروب السيطرة والتحكم الإلكتروني أو التهديدات اللامتماثلة فإن مستقبل فاعلية الردع في ظل تعاظم وتيرة التهديدات اللامتماثلة ستكون أكثر صعوبة، ومن هنا فإن الاستقراءات المستقبلية تتحدد في تغيير مفهوم الردع تبعا لطبيعة اللاتماثل في التهديد.

إن مستقبل الردع في ظل التهديدات اللامتماثلة سيتحدد بجملة من الأمور وفي مقدمتها ‌نقاط ضعف الدول وتشمل مكامن الخلل في قدرات الدول وبالتالي فإن الدول الضعيفة التي لا تمتلك القدرات أمام التهديدات اللامتماثلة تكون أكثر عرضة للمخاطر، كما أن هذه الدول تتأثر بصورة مباشرة بأي متغيرات إقليمية أو دولية كونها لا تستطيع حماية بيئتها الأمنية داخلياً ولا مصالحها الخارجية.

إضافة إلى ذلك فإن الردع في التهديدات اللامتماثلة يتطلب تقييـم مـصـدر الخطـر وطبيعتـه، لأنه يرتبط بطبيعة القدرات التي يمتلكها مصدر الخطر، وتقييم القدرات الوطنية وقدرات الحلفاء أيضاً، حيث تساهم التحالفات في لعب دور كبير في ردع التهديدات اللامتماثلة، وفكرة التحالف هنا لا تعتمد على زيادة مستوى القوة بالدرجة الأساس وإنما زيادة مستوى التأثير والانتشار وتعزيز القدرة على سرعة الاستجابة لردع التهديدات اللامتماثلة.

اتبع حلف “الناتو” مجموعة سياسات متعددة من أجل مواجهة التهديدات اللامتماثلة، ففي اجتماع للحلف في ديسمبر 2015 تبنى “الناتو” استراتيجية متنوعة الاتجاهات لمواجهة التهديدات اللامتماثلة مثل تبادل المعلومات وأنظمة الإنذار المبكر لاستشعار التهديدات فضلاً عن العمل على تحديد نقاط الضعف التي تمثل حالة جذب لشن التهديد.

فالخطر القادم مـن تحالف دولي يأخـذ الـوزن الأكبر مـن حيـث الخطـورة، والخطـر القـادم من دولة مجاورة يأخـذ وزنـا أقـل، والخطـر القـادم من منظمات داخلية أو خارجيـة يأخذ النسبة الأصغر بين الجميع، فمن غير المنطقي إعطاء الوزن نفسه لطبيعة مصدر الخطـر ونوعيته.

ومن المهـم تقـديـر الفترة الزمنية المحتملة لوقـوع الخطـر، ذلك لأن هذا التقدير سيحدد المسافة الزمنية للتحضير والإعداد لمواجهته، فكلما كانت احتمالية وقوع الخطر عالية أو قريبة من الحاضر، ارتفعت قيمة الخطـر والعكس صحيح فالخطر الوشـيـك الـذي يمكن أن يقع في أي لحظة يحتل الأولوية وتليـه بـاقـي الاحتماليات، وهناك أخطار لا تقع إلا بتوافـر ظـروف معينة وخاصـة، ومن ثم يرتبط احتمال وقوعها مع تلك الظروف، وتبقى دلالة الردع في الاستقراءات المستقبلية هي العامل الحاسم من خلال تحديد مصداقية وإدراك الإمكانات والقدرات والاقتدار على إحداث الفعل في المكان المعين والوقت المناسب، وأن يكون هذا الفعل قادراً على إحداث درجة من الأذى تجعل الخصم في حالة ذهنية يقرر بموجبها درجة الاستجابة لهذا الفعل. والتي ستكون ذات أوجه متعددة، أعلاها هو التلويح بتحَدٍ مقابل وربما موازٍ، أو محاولة التوافق والتماهي مع مطلب المتحدي بشكل يمنعه من تشغيل عناصر الفعل وذلك مما يؤدي إلى تغيير قواعد المواجهة وتحويلها إلى وسائل أقل حدة.

من جانب آخر فإن التهديدات اللامتماثلة ستكون في مواجهة قدرات الردع وبذلك تختلف الإمكانات والقدرات المستخدمة، وتحديداً الأسلحة، وفق نوعية النتائج المرجوة من استراتيجية الردع في شأن ما. إذ أن الضربات سواء خلال الهجوم أو الدفاع تختلف في سماتها عن بعضها البعض،و يتميز الردع بوجود استراتيجية للتهديد بالعقاب، أي إقناع الخصم بأن التصرف غير المرغوب فيه سوف يكبده من الخسائر أكثر بكثير مما قد يترتب عليه من مكاسب، ويجب أن يكون الردع مصداقيًا، وأحيانًا تكمن فاعلية الردع بمقدار ماتمتلك من القوة سواء القوة العسكرية أو غيرها من القوة  السياسية والاقتصادية.

مستقبل تطوير قدرات الردع تجاه التهديدات اللامتماثلة

تتسم عملية تقييم التهديدات اللامتماثلة بالتعقيد الشديد نظرا لكثرة المتغيرات التي ينبغي الإحاطة بها أو عدم إغالفها حيث يمكنها التأثير في القيم الرقمية للمخاطر الأمنية. وبناء على ما سبق يمكن تحديد اتجاهات آليات تطوير قدرات الردع لمواجهة التهديدات اللامتماثلة مستقبلاً، كما يلي:

أولاً: تعزيز قدرات الردع المتنوعة والتي تتلائم مع مصادر التهديدات اللامتماثلة فضلا عن طبيعتها المتغيرة.

ثانياً: تدعيم برامج التعاون المشترك بإجراءات وقائية تمكن ردع خطر الفواعل من الجهات التي تؤثر في الأمن القومي والإقليمي والدولي .

ثالثاً: زيادة درجات الوعي الإدراكي لبرامج الردع وبما يتناسب مع حجم وتاثير التهديدات اللامتماثلة.

رابعاً: تحقيق مبدأ التوازن في التهديد وبما يشكل عنصرا رادعا للطرفين وثني إرادة إيذاء أي طرف على حساب الطرف الآخر.

خامساً: إيلاء موضوع القوة بمعناها التقليدي والإلكتروني والمعنوي بُعدا جديدا ينسجم مع متبنيات قدرات الردع التي تحقق تقويضاً للتهديدات اللامتماثلة.

الخاتمة

لقد ساهمت التطورات الحديثة في التكنولوجيا والأسلحة وحتى في الأساليب السياسية والإعلامية إلى تعزيز قدرة التهديدات اللامتماثلة في الحفاظ على قدر من التأثير، فالانتقائية التي تستخدمها التهديدات اللامتماثلة تجعل من القوة التقليدية أو حتى النووية غير قادرة على الردع. لا سيما أن هذه الانتقائية تركز على نقاط الضعف للدول في محاولة منها لإحداث التأثير المطلوب من التهديد.

واشتملت أبعاد التهديدات اللامتماثلة على جملة من المتغيرات التي تختلف عن التهديدات بين الأطراف المتعادلة، فالفواعل التي تنفذ التهديدات غير متكافئة، فضلا عن عدم القدرة على معرفة حدودها وآليات الحد من خطورتها وردعها، ومن هنا كانت تلك التهديدات في مرمى نظريات الردع، إلا أن الأخير قد اكتسب معنىً آخر فرضته بيئة التهديدات اللامتماثلة، مما أدى إلى تبني استراتيجيات ردع غير تقليدية وتتسم بقدرتها على الحد بشكل كبير من خطورة التهديدات اللامتماثلة، ومن جانب آخر كانت نظرية توازن التهديد أحد أهم الطروحات الفكرية في ميدان الدراسات الدولية والاستراتيجية والتي تأطرت بممارسات عملية من قبل الدول الفواعل ومن خلال المستويات كافة (أفراد، مؤسسات، منظمات، شركات، دول، تحالفات) لتحقق شكلاً ونمطاً جديدا من ممارسة الردع إزاء التهديدات اللامتماثلة، وستكون هذه الممارسات فاعلة لتحقيق الأهداف المرجوة من الردع، إضافة إلى ذلك فإن الاستراتيجيات المسخدمة في الردع ستعتمد على تكتيكات خاصة تنسجم مع طبيعة وتأثير التهديدات اللامتماثلة.

شاهد أيضاً

كيف نجح بوتين بهندسة أطول فترة حكم لروسيا منذ ستالين؟

الشرق اليوم– يرى الكثيرون أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يسير في خطى ثابتة للفوز بفترة …