الرئيسية / مقالات رأي / الغرب وروسيا والخطوط الحمراء

الغرب وروسيا والخطوط الحمراء

بقلم: نايجل غولد ديفيز – صحيفة الشرق الأوسط

الشرق اليوم- “ما الخطوط الحمراء عند بوتين؟”، يجري طرح هذا السؤال بإلحاح مزداد، مع انتكاسة روسيا في أوكرانيا. ويسعى السؤال لطرح درجة من الوضوح وتوجيه السياسات. ورغم ذلك، فإن هذا في واقع الأمر السؤال الخطأ، لأن ثمة سبلاً أفضل للتفكير في الاستراتيجية.

يوحي تعبير “خطوط حمراء” بوجود حدود واضحة للتصرفات التي يمكن لدولة ما قبولها من جانب آخرين. وإذا تجاوز الغرب هذه الخطوط، فإن روسيا ستستجيب على نحو جديد. وبذلك يكون الخط الأحمر مرادفاً للتصعيد. على الجانب الآخر، يجب على الدبلوماسية الغربية، وفقاً لهذا المنطق، السعي نحو فهم و”احترام” الخطوط الحمراء لروسيا، من خلال تجنب الأفعال التي تشكل تجاوزاً لها. وبذلك يتضح أن الخطوط الحمراء الروسية تفرض قيوداً على التصرفات الغربية.

ومع هذا، فإن مثل هذا المنطق ينطوي على ثلاثة عيوب؛ أولاً: أنه يفترض أن الخطوط الحمراء سمات ثابتة في السياسة الخارجية لدولة ما، وهذا أمر غير واقعي على الإطلاق.

مثلاً، عام 2012، قال الرئيس أوباما إن استخدام سوريا أسلحة كيماوية يعد “خطاً أحمر” يستدعي “عواقب هائلة”. ومع ذلك، قتل مدنيون باستخدام غاز الأعصاب “السارين” في العام التالي، حسبما ذكر كثير من الكيانات الرقابية، وجاء رد الفعل الأمريكي خافتاً.

كما أن عودة جماعة “طالبان” إلى السلطة بكابل في أغسطس (آب) 2021 كانت أبرز الخطوط الحمراء، حتى لم يعد كذلك فجأة في وجه تبدل الأولويات.

ولا تمثل الحالات السابقة استثناءً، وإنما لطالما كانت الخطوط الحمراء لينة ومتنوعة ومؤقتة بطبيعتها في جميع الحالات تقريباً.

إن الاستراتيجية المبدعة والقوية لا تقيد نفسها على نحو استباقي، خوفاً مما يمكن أن يجده الجانب الآخر غير مقبول لديه، وإنما تعمل على تنسيق جميع عناصر موقف ما لدفع خصم نحو قبول أهداف هذه الاستراتيجية.

أما العيب الثاني لفكرة “الخط الأحمر”، فيكمن في أنها تركز حصرياً على الاستجابة التصعيدية لدولة ما، وهي بذلك لا تنظر إلا إلى المخاطر والمعضلات التي يفرضها ذلك على خصم ما، وليس تلك التي تواجهها الدولة القائمة بالتصعيد نفسها.

ثالثاً وأخيراً: يستدعي هذا الانشغال المبالغ فيه بالخطوط الحمراء، ممارسات الخداع، فمن الطبيعي أن تسعى دولة ما إلى التلاعب برغبة خصمها في تقييد نفسه من خلال توسيع دائرة مصالح تدعي أنها “جوهرية”، وتصرفات تعدها “غير مقبولة”.

من خلال كشف هذه العيوب، يمكن المعاونة في صياغة سياسة أفضل. في الواقع، فإن المخاوف بخصوص الخطوط الحمراء الروسية تنطلق بصورة أساسية من الخوف من إمكانية لجوء موسكو إلى السلاح النووي. وينبغي للغرب تجنب هذا الأمر عبر التوضيح الكامل للعواقب القاسية التي ستترتب على استخدام روسيا للأسلحة النووية.

من جهتها، حاولت روسيا مراراً وفشلت في فرض خطوط حمراء باستخدام التهديدات النووية منذ بداية الحرب ـ كان آخرها في نوفمبر (تشرين الثاني)، عندما حررت القوات الأوكرانية خيرسون، بعد ستة أسابيع فقط من إعلانها جزءاً من روسيا على لسان بوتين. وقد رفضت أوكرانيا والغرب تهديدات بوتين الخادعة، ويتعين عليهما الاستمرار في ذلك.

وفي الوقت الذي يمكن فيه أن يشتعل خطر التصعيد النووي الروسي، الأمر الذي تنبغي دراسته بحذر، ليس ثمة قائمة محددة بالتصرفات التي ربما يقدم عليها الغرب أو أوكرانيا وتستثير استخدام موسكو للأسلحة النووية. حقيقة الأمر أن روسيا ليست لديها خطوط حمراء، وإنما لديها أمام كل لحظة مجموعة من الخيارات والتقديرات للمخاطر والفوائد. وينبغي أن يعمل الغرب دوماً، عبر الدبلوماسية، على صياغة هذه التقديرات على نحو يدفع روسيا لاختيار الخيارات التي يفضلها الغرب. وقد سبق أن حققت أميركا هذا بالفعل من قبل. أثناء أزمة الصواريخ الكوبية، التي تعد المواجهة النووية الأخطر حتى يومنا هذا، تحول موقف الاتحاد السوفياتي في غضون أيام، ليقبل نهاية الأمر بالنتيجة التي مال إليها الغرب. ولو ساد التفكير حينذاك في “الخطوط الحمراء”، ربما كانت واشنطن لترضخ وتقبل بتسوية أدنى تلحق الضعف بأمنها ومصداقيتها.

ومع أن روسيا استثمرت اليوم في مساعيها لإخضاع أوكرانيا لها أكثر مما استثمرت في أزمة الصواريخ الكوبية، يبقى المنطق كما هو. عام 1962، نجحت واشنطن في إقناع الزعيم السوفياتي، نيكيتا خروشوف، بأن إزالة الأسلحة النووية من كوبا، رغم كونه خياراً غير مستساغ، فإنه أفضل من نشرها.

وبالمثل، ينبغي للغرب أن يعمل اليوم على إقناع بوتين بأن سحب قواته من أوكرانيا أقل خطورة من استمراره في القتال. ومن المحتمل أن يفعل ذلك، إذا اقتنع بأن الحرب الطويلة تشكل تهديداً لنظامه من خلال إضرارها بالتناغم الداخلي أو خروج إجراءات التصعيد عن السيطرة.

من جهتها، ينبغي لأمريكا التركيز على ثلاثة أمور؛ أولاً: ينبغي لها التوقف بعد الآن عن إعلان أن ثمة إجراءات ستتجنبها، وأسلحة لن تقدمها لدعم أوكرانيا. الواقع أن فرض قيود على الذات من طرف واحد يشكل تنازلاً لا داعي له.

ثانياً: يجب أن توضح أمريكا، بالتعاون مع شركائها، أن عامل الوقت يعمل ضد مصلحة روسيا ـ وليس لصالحها. وينبغي أن يظهر الغرب استعداده لتعبئة تفوقه الاقتصادي الضخم بسرعة لتمكين أوكرانيا من هزيمة روسيا، وفرض مزيد من العقوبات القاسية على الأخيرة.

ثالثاً: يجب أن يوضح الغرب أمام جماهير روسية عريضة أنه من الآمن إنهاء الحرب من خلال الانسحاب من أوكرانيا، وأن الانسحاب المنظم من غير المحتمل أن يؤدي إلى تغيير النظام، ناهيك بتفكك روسيا. الحقيقة أن أياً من هاتين النتيجتين من بين الأهداف المعلنة للغرب، والحديث عنهما غير مفيد مطلقاً، بل ويؤتي نتائج عكس المرجوة.

شاهد أيضاً

إسرائيل تختار الصفقة بدلاً من الرد الاستعراضي

بقلم: علي حمادة – صحيفة النهار العربي الشرق اليوم– تجنبت ايران رداً إسرائيلياً استعراضياً يفرغ …