الرئيسية / مقالات رأي / في العقوبات الاقتصاديّة

في العقوبات الاقتصاديّة

بقلم: عبد الاله بلقزيز – صحيفة الخليج

الشرق اليوم- الحرب الاقتصاديّة والماليّة، في عالم الصّراعات اليوم، أقلُّ كلفة بالنّسبة إلى من يشنُّها من الحرب العسكريّة؛ حيث لا يسقُط له فيها قتلى وجرحى، ولا يتلقّى خسارات في العتاد، ولا يُسْتَنْزَف فيها ماليّاً بالإنفاق عليها، ولا يترتّب عليه منها أيُّ نوعٍ آخر من الأثمان الثّقيلة التي تدفعها الجيوشُ المتحاربة من خوضها الحروب. ولكنّها على قلّة كُلفتها، حربٌ في المطاف الأخير، وخاصّةً على من تقع عليه وهو – عادةً – الأضعفُ في توازُن القوى الاقتصاديّ؛ حيث تترتّب عنها نتائج وخيمة على الصّعيد الحياتيّ والإنسانيّ، وقد يذهب ضحيّتها مجتمعٌ برمّته، واقتصادٌ برمّته لا جيشٌ فحسب؛ لذلك لا تقِلّ الحرب الاقتصاديّة والماليّة قذارةً ووحشيّةً عن الحروب العسكريّة، ولو أنّها تجدُ الخطابَ الأيديولوجيّ الجاهزَ للتّستّر على جرائمها من طريق إعادة تعريفها – زوراً – بأنّها من نوع الحروب “النّاعمة”.

قد تتّخذ هذه الحرب شكْلَ حربٍ تجاريّة بين قوًى اقتصاديّة متكافئة تَكيد لبعضها، على مثال الحرب المندلعة، منذ أعوام، بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة والصّين؛ وقد تتّخذ شكل استضعافٍ متعمَّد من قوّةٍ غاشمة لشعبٍ منكوب؛ وذلك حين تتمظهر في صورةِ حصار اقتصاديّ قاتل يتقصّد التّجويع والإذلال؛ كما أنّها قد تأتي في شكل سياسةٍ من العقوبات الاقتصاديّة والماليّة – تتّخذها دولةٌ أو تحالُفُ دولٍ ضِدّ دولةٍ قصْدَ كسْرِ إرادتها، أو إخضاعها، أو تدمير اقتصادها ومقدَّراتها، أو معاقبتها على عدم الامتثال لإرادة المتحكّمين في النّظام الدّوليّ، أو لأيّ سبب آخر يصبّ في دائرة أهداف من يشُنّها. والأغلب على مثل هذه الأنواع من الحروب الاقتصاديّة أنّ الذين يلجأون إليها كسلاح، يفعلون ذلك لعجزهم عن خوض حربٍ قتاليّة ضدّ أعدائهم مخافةَ أن يلحقهم منها أذًى لا يَقْوَوْن على تحمُّله.

والمشكلة في أنّه على الرّغم من وحشيّة هذا النّوع من الحروب (الاقتصاديّة والماليّة)، ومن سعة آثارها المدمّرة في حياة من تقع عليها من الأمم والشّعوب، وفي اقتصاداتها ومقدّراتها ونسيجها الاجتماعيّ… فإنّها لا تجد من يجرِّمها باسم القانون الدّوليّ (وخاصّةً من قِبَل أولئك الذين لا يكُفّون عن رفْع العقائر “دفاعا” عن القانون الدّوليّ)، ولا مَن يرى فيها انتهاكاً له، وتهديداً للأمن والاستقرار في العالم. وما من شكٍّ في أنّ الإحجام عن تجريم استخدامها كسلاحٍ في العلاقات الدّوليّة إنّما هو بمثابة إجازةٍ لها تسوِّغ اللّجوء إليها. والأنكى أنّ القوى التي كانت تعالن العرب اعتراضها على استخدامهم النِّفْط سلاحاً في معاركهم المصيريّة، هي عينُها اليوم التي تنخرط في عمليّة استخدام الغِذاء والدّواء والموارد الاقتصاديّة سلاحاً لمواجهة خصومها المتمرّدين على إرادة السّيطرة لديها.

ولعلّ المشكلة الكبرى في سياسة العقوبات الاقتصاديّة أن تأثيراتها لا تقع، فقط، على البلد الذي يتعرّض لها؛ بل هي قد تطال بنتائجها بلداناً أخرى مجاورة أو شريكة في العقوبات. من ذلك مثلاً أنّ العقوبات الأمريكيّة القاسيّة التي فُرِضت على سوريا، باسم “قانون قيصر”، لم تُؤْذِ سوريا فحسب؛ بل آذت لبنان والأردنّ والعراق وكلّ شركاء سوريا الاقتصاديّين أيضاً. أمّا العقوبات الأمريكيّة والأوروبيّة على روسيا – بعد انطلاق عمليّتها الخاصّة في أوكرانيا – فلم تتأثّر بها روسيا وحدها؛ بل طالت شركاءَها الاقتصاديّين أيضاً، والأهمّ من هذا أنّ نتائجها ارتدّت حتّى على الدّول نفسِها المعلِنَة عن تلك العقوبات، والمنخرطة في فرضها. وهذه هي حال دول أوروبا والولايات المتّحدة التي انهمرت عليها نتائجُ عقوباتها كساداً في الإنتاج، وارتفاعاً في معدّلات التّضخّم، وأزمةً حادّةً في سوق المحروقات، وغلاءً فاحشاً في أسعار موادّ الاستهلاك… إلخ. هكذا وجدت نفسها – من حيث لم تحتسب – تشارِكُ البلدَ المعتَدَى عليه بالعقوبات عقوباته وكأنّها إنّما كانت تفرضها على نفسها حين فرضتْها عليه.

يَدُلُّنا هذا على الفارق في القدرة على الاحتواء والاستيعاب عند الدّول التي قد تتعرّض للعقوبات الاقتصاديّة؛ فهذه روسيا تبدو متماسكة القوى في مواجهة عقوبات الغرب الأمريكيّ- الأوروبيّ، محوِّلةً إيّاها فرصةً لتعافي عملتها الوطنيّة، وتنويع شركائها الاقتصاديّين والتّجاريّين في العالم، ورفْع أسعار الطّاقة والاستفادة من مداخيلها، وتلقين أوروبا درساً في شأن حاجتها الحيويّة إلى روسيا، والذّهاب في العلاقات الاستراتيجيّة بالصّين إلى حدودها الأبعد… إلخ. في المقابل، لم يستطع بلدٌ صغير مثل لبنان أن يواجه العقوبات الأمريكيّة المفروضة عليه؛ هذه التي طوّحت بعملته، وضربتْ نظامه الماليّ في مقْتل، وأدخَلَتْه في أزمةٍ اقتصاديّة ومعيشيّة غيرِ مسبوقة، وجعلتِ الحياةَ فيه شبهَ مستحيلة لدى السّواد الأعظم من شعبه.

شاهد أيضاً

إيران وإسرائيل… الحرب والحديث المرجّم

بقلم عبد الله العتيبي – صحيفة الشرق الأوسط الشرق اليوم- ضعف أميركا – سياسياً لا …