الرئيسية / مقالات رأي / أفول بريطانيا وفقدانها الأهمية على الساحة الدولية

أفول بريطانيا وفقدانها الأهمية على الساحة الدولية

بقلم: ماري ديجيفسكي – اندبندنت عربية

الشرق اليوم- اليوم، يبدو لنا وكأن بوريس جونسون استقال منذ زمن بعيد، في حين أنه في الواقع، لم يمرّ على رحيله سوى أسبوع واحد فقط. والحال أنه عندما أعلن استقالته، كان واضحاً أن الخبر لم يفاجئ أحد في المملكة المتحدة. قل إن الاستقالة بدت أكثر مجرد مسألة توقيت وحيثيات. ربما نجا جونسون من تصويت الثقة من جانب نواب المحافظين قبل شهر واحد فقط، لكن كر سبحة الفضائح تواصل، وعندما بدأ الوزراء في الانشقاق، انتهى الأمر في غضون ساعات. “إنها غريزة القطيع”، على حد تعبير جونسون في بيانه.

لم يبد الأمر هكذا للناظرين من الخارج. من الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا إلى جنوب شرقي آسيا والولايات المتحدة، تمثّل ردّ الفعل في ذهول كبير لم يتكلّف أحد في إخفائه. كان ذهول أشبه بذلك الذي أعقب تصويت المملكة المتحدة على الخروج من الاتحاد الأوروبي. كيف قيض لذلك أن يحصل؟ ما الذي يفعله هؤلاء البريطانيون بأنفسهم – مجدداً؟

صحيح أن الانتباه في الخارج تحول إلى أوكرانيا، وأسعار الطاقة المرتفعة، وعودة كورونا، والتضخم. وصحيح أيضاً أن اهتمام المملكة المتحدة المتقلص بشدة بالاتحاد الأوروبي منذ “بريكست” – كما يظهر في المجالين السياسي والإعلامي– متبادل تماماً. فالمملكة المتحدة وأساليبها الغريبة تراجعت إلى مستوى أدنى بكثير في الترتيب الهرمي لاهتمامات الاتحاد الأوروبي.

هذا لا ينفي أن بعض العواصم الأجنبية (ومنها قلّة أوروبية)، قد تكون ابتهجت وهللت للخبر، لكن لم يمر سوى عشرة أيام تقريباً منذ أن شارك بوريس جونسون في اجتماعات دولية: من الكومنولث في رواندا، ومجموعة الدول السبع في بافاريا، ومنظمة حلف شمال الأطلسي في مدريد. لقد شهدته كل مناسبة يخالط الحضور بابتهاج ويبدو وهو يرأب الصدع مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ويحاول –وينجح تقريباً– تمتين المواقف الأوروبية من الحفاظ على نهج متشدد في شأن روسيا ومواصلة الدعم العسكري لأوكرانيا.

لكن يبدو أن التكتل الأوروبي [الدول الأوروبية فيما خلا بريطانيا وإيرلندا] قرر عدم تقديم مزيد من التعهدات المحددة إلى أوكرانيا. فاللغة القاسية لبيان مجموعة الدول السبع، حول “توفير الدعم المالي والإنساني والعسكري والدبلوماسي والوقوف مع أوكرانيا ما دام الأمر يقتضي ذلك”، قدمت تفصيلاً أقل في ما يتصل بالالتزامات الغربية مقارنة بالمملكة المتحدة. ربما كانت المجموعة تميل إلى سبل دبلوماسية في المرحلة المقبلة وتبدي اهتماماً بذلك أكثر مما تستسيغه المملكة المتحدة. وهناك أيضاً حقيقة قاسية مفادها بأن بعض التمويل الذي كانت تناشد أوكرانيا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الحصول عليه توقف منذ ذلك الوقت بسبب تساؤلات حول الفساد.

على الرغم من هذا كله كان بوريس جونسون يجعل وجوده ملموساً على الساحة العالمية. من الواضح أنه استمتع بمناسبات كهذه وأنها أعطته فرصة لتمثيل المملكة المتحدة في هذه اللقاءات الرفيعة والتمييز بين “بريطانيا العالمية” والمخاوف من المركزية الأوروبية لدى الاتحاد الأوروبي.

ثم فجأة، انتهى ذلك كله. الآن بوريس جونسون هو أكثر البطات العرجاء عرجاً، فهو لا يستطيع أن يقوم سوى بالحد الأدنى من العمل خلال الصيف. أما في ما يتعلق بمصير الحكومة، فنصفها يتألف من وجوه جديدة ونصفها ممن بقوا في مناصبهم من أجل الواجب. ويسوء الأمر – أكثر بكثير. وهذا ليس فقط لأن ثمة فراغاً حيث ينبغي للحكومة أن تكون، بل لأن الوزراء جميعاً يتخاصمون في شكل علني للغاية في السباق على منصب رئيس الوزراء.

قد يكون السباق نفسه قد اجتذب الثناء في البرلمان بفضل التنوع السياسي والعرقي والجندري للمتنافسين، لكن ما الانطباع الذي تولده هذه الفوضى في الخارج؟ هناك حرب في أوروبا، وأزمة على صعيد تكاليف المعيشة، وثورة في سريلانكا (قد تنتشر)، ونواقص محتملة في الأغذية نتيجة لعجز أوكرانيا عن شحن حبوبها، لكن بلداً يصور نفسه طرفاً فاعلاً رئيساً، وهو في بعض النواحي كذلك، ترك الساحة ببساطة بأدنى قدر من الإشعار بذلك.

من بعض النواحي، ربما تكون أفضل سياسة يتبعها جيراننا وحلفاؤنا هي شطب المملكة المتحدة في الأقل حتى 5 سبتمبر (أيلول)، عند الإعلان عن رئيس الوزراء الجديد، ثم إعطاء الحكومة الجديدة بعض الوقت للالتئام. وإذا قرر رئيس الوزراء الجديد الدعوة إلى عقد انتخابات سعياً إلى الحصول على تفويض وطني، بدلاً من عقد انتخابات حزبية، قد تستمر الاضطرابات. لا تزال هناك في الأقل بعض البلدان التي يعتبر فيها أغسطس (آب) بأكمله مدى خالياً من العمل.

للحصول على فكرة ما عن الصورة التي تبدو المملكة المتحدة عليها من الخارج، لنتخيل أن ماكرون أُطيح على نحو ما من الرئاسة، بدلاً من اضطراره إلى تكييف نفسه مع حياة من دون أغلبية برلمانية. أو إذا أقصيت أنغيلا ميركل من قبل مجموعة من نوابها، حتى عندما اقتربت تحالفاتها المختلفة من الانهيار، كانت لا تزال تتمتع بالسلطة، باعتبارها زعيمة لأكبر حزب في البرلمان الألماني، لتعيد الجمع بين هذه التحالفات. تبدو المملكة المتحدة أشبه بإيطاليا على الطراز القديم (قبل برلسكوني، قبل دراغي)، باستثناء أن إيطاليا كانت تتدبر أمرها من دون حكومة. أما المملكة المتحدة –على الرغم من مفاخرتها بخدمة مدنية غير سياسية تعمل كآلة من صنع “رولز رويس”– فليست كذلك.

يترك الغياب الفعلي للمملكة المتحدة عن اتخاذ القرار الدولي الباب مفتوحاً أمام العديد من التساؤلات حول ما قد تطبخه بلدان أخرى في غضون ذلك. مع قلق الألمان من عجز وشيك في الطاقة وعرض فرنسا على أوكرانيا مزيداً من الدعم اللفظي وليس العسكري، من المحتمل أن يبدأ النهج المتشدد الذي يتخذه الغرب ضد روسيا في التراخي. ولا شك في أن أوكرانيا تشعر بالقلق إزاء رحيل جونسون، نظراً إلى دعمه الشخصي الرئيس زيلينسكي. وليس مستقبل قيد المناقشة بوصف جونسون “مبعوثاً خاصاً للمملكة المتحدة” هو الشيء نفسه.

غير أن الآثار، من ناحية أخرى، قد لا تكون سلبية تماماً. هناك بعض المسائل – بما في ذلك النزاع المستمر حول بروتوكول إيرلندا الشمالية – التي قد يعود عليها بالمنفعة، حسناً [يجب الإقرار بذلك]، عدم القيام بأي شيء. وقد ينطبق أمر مماثل على العلاقات مع الاتحاد الأوروبي على نطاق أوسع. كان بوريس جونسون قد بدأ تقارباً مع ماكرون، لكن التوترات التي يشي بها “بريكست” بين لندن وبروكسل لا تزال قائمة.

أياً كان من يصبح رئيس الحكومة التالي أو رئيسة الحكومة في المملكة المتحدة لن يكون هو  من “أنجز بريكست”، ولن يكون من لعب ألعاباً كلامية معقدة [راوغ] حول إيرلندا الشمالية. وربما لن يكون هو وزيلينسكي من أفضل الأصدقاء، وليس من الضروري أن يكون هدفاً لنكات الكرملين. قد تكون هناك إيجابيات، إضافة إلى السلبيات، لتوقف مؤقت [في مسار النزاع حول بروتوكول إيرلندا الشمالية]، قد يليه ما يشبه بداية جديدة.

شاهد أيضاً

الأمل المستحيل لإسرائيل

بقلم: عاطف الغمري – صحيفة الخليج الشرق اليوم- عندما يطرح مركز بحوث أمريكي مؤيد دائماً …