الرئيسية / مقالات رأي / اغتيال آبي عارض لتحول عميق في اليابان

اغتيال آبي عارض لتحول عميق في اليابان

بقلم: سمير التقي – النهار العربي

الشرق اليوم- في واحدة من أكثر اللحظات دقة وخطورة منذ عقود، جاء اغتيال رئيس الوزراء الياباني السابق شينزو آبي وهو يلقي كلمة في الحملة الانتخابية لحزبه، ليزيد الوضع الدولي اضطراباً ويعمق حالة عدم اليقين!

تطهرت اليابان إلى حد كبير من العنف السياسي الذي ساد الصراع السياسي زمن الاقطاعية العسكرية للساموراي لقرون، إذ ترسخ في ذاك الزمان مجتمع شديد التراتب وتقاليد ثقافية نخبوية ومشاعر قومية وعصبيات عرقية راسخة في البلد البحري المعزول القليل الموارد والشديد المحافظة. لذلك كان زمن الساموراي زمناً للحروب والمؤامرات والاغتيالات السياسية بين حكام الأقاليم وعلى مستوى البيت الإمبراطوري لكن ضمن قواعد هرمية شديدة التعقيد.

على وقع التحول الكوني نحو المجتمع الصناعي الحديث، كانت للإمبراطورية اليابانية تجربة فريدة في إدارة التحول العميق في الدولة والمجتمع والثقافة. في بريطانيا التي ترسخت فيها أعراف الإصلاح التدريجي، استغرق بدء التحول نحو الدولة الحديثة أربعة قرون بعد الماغنا كارتا. وفي فرنسا حيث التقاليد الثورية، تمت تصفية عنيفة للإقطاع، لكن نموذج الملكية البديل، ونموذج الدولة الفرنسية الحديثة لم يكتمل لأكثر من عشرة عقود.

هذا التحول جرى بشكل مختلف تماماً في اليابان. إنه نموذج الثورة من فوق. فبعد ثورة المايجي قام تحالف بين رجال الأعمال الجدد مع البيت الإمبراطوري الذين قاموا بتطهير فيزيائي لطبقة الساموراي (الاقطاعيين العسكريين)، وتمت تصفية الأساس البنيوي والثقافي للعنف السياسي. لكن بالتوازي مع هذا الانعطاف تنامت ثقافة التفوق العرقي والعصبية القومية لتتجسد في عسكرية إمبريالية يابانية نجم عنها عدد من الحروب والمآسي في آسيا، لسنا الآن في واردها.

ومرة أخرى، وفي ثورة من فوق أيضاً، بعد الحرب العالمية الثانية، نشأ تحالف جديد بين البيت الإمبراطوري وطبقة جديدة من الصناعيين والسياسيين اليابانيين. وتم تطهير تلك السلالة من السياسيين الذين تسببوا بالحروب الإمبريالية اليابانية. ونشأ توجه عميق لضبط كل أشكال العنف السياسي في المجتمع إلى حد كبير، لتصبح الأسلحة صعبة المنال على الجمهور، حيث حصلت في اليابان وفاة واحدة ناجمة عن الأسلحة النارية عام 2021.

لذلك، وعلى الأقل بالنسبة الى الشعب الياباني، كانت عملية اغتيال شينزو آبي صدمة بالغة. فرغم تنحيه، استمر شنزو آبي يستثمر في سمعته وخبرته لمصلحة الحزب الليبرالي. ولا شك في أنه كان يتمتع ببراعة منقطعة النظير في إدارة التوازنات، ليس فقط على صعيد الحكم والمجلس التشريعي والسياسة الخارجية، بل وعلى صعيد الحزب الليبرالي ذاته. ولن أمضي أبعد في استباق الأحداث التي أجدها حبلى في اليابان، لكني سأكتفي بالإشارة الى عاملين إطاريين لتشكيل فهمنا لتداعيات المنعطف الذي دخلته اليابان.

الحزب الديموقراطي الليبرالي الحاكم في اليابان الذي ينتمي إليه آبي وشغل عبره رئاسة الوزراء، ليس من سلالة الأحزاب الليبرالية الغربية من يمين الوسط الطبيعي، بل يرتبط هذا الحزب بالطبقة الصناعية والعائلات السياسية القومية التي تجاوزت حقبة هزيمة الحرب العالمية الثانية. فعائلة آبي مثال واضح لهذه العائلات التي استبقت بعضاً من الجمر تحت التراب بعد الحرب. وجدُّ آبي لأمه أيضاً مع الحزب الليبرالي الديموقراطي كان أيضاً هدفاً للاغتيال في 1960.

النقطة الثانية هي أن اليابان، كما أشرت سابقاً، ليست أرض التغيير على نمط الديموقراطيات الغربية. ذلك أنه لا توجد حواجز داخلية أمام الحركة نحو التغيير في الغرب الأوروبي والأميركي. بمعنى أن القوى السياسية تتفاعل وتشتبك وتتطاحن وتتقاتل ليحصل التغيير عبر قضم تدريجي وصعود وهبوط درامي عنيف أحياناً، لينتهي بانتقال يشمل طيف المجتمع باقتصاده وقوانينه وثقافته الخ… لذلك فالتبدل والتغيير في الغرب هو القاعدة.

أما في اليابان فالأمر مختلف. كانت اليابان تاريخياً سلسلة من الجزر الجبلية مع روابط ضعيفة في أحسن الأحوال بين المراكز السكانية التي تحكم اليابان. تطلب ذلك تقليدياً، إقامة توازن دقيق للغاية بين مراكز القوى الصناعية والسياسية المختلفة والبيت الإمبراطوري، لتصبح السياسة فيها فناً معقداً لإدارة توازنات، سواء على الصعيد الداخلي أم الخارجي، بخاصة في ظل التحالف مع الولايات المتحدة وفي إطار أزمة العولمة الراهنة.

نعم كان النظام على مدى السنوات الـ 70 الماضية مستقراً، ولكن إلى حد الركود. وكان الركود يسود بنية المؤسسات والشركات وعلاقات العمل وبنية الأكاديميا في ظل التركيز الكبير على الإنتاجية والصناعة الفائقة التقدم والتجارة والتركيز على استراتيجيات توفير الموارد للصناعة اليابانية في إطار شبكة التحالفات الأميركية. 

وبحسب ما يعلمنا تاريخ اليابان، فإن أي سعي إلى تغيير الاستقرار والتوازنات الدقيقة فيها يعني بداية تحول يشع في كل مناحي الحياة. ومما يزيد من حراجة الحالة، وجود خصم قريب متحفز، ألا وهو الصين. 

اليابانيون، وعلى عكس العديد من الشعوب الغربية، يميلون الى تجاهل التغييرات الصغيرة حتى تتراكم، سواء بالنسبة الى حرية المرأة أم إلى علاقة الفرد بالمجتمع أم المجتمع المدني بالدولة والمؤسسات الحاكمة أم مجتمع رجال الأعمال أو حقوق العمل. لكن التحولات الصغيرة كانت تتجمع مثل قطرات المطر، لتلد زخم اللحظة، ولتكون مقدمة لتغيير جديد لصورة اليابان، في ثورة جديدة من فوق. نعم تتحرك اليابان بالتأكيد نحو واحدة من تلك المنعطفات.

لكن تبقى التحديات كبيرة جداً أمامها. فالانهيار الديموغرافي والصعود المتحفز للصين والحاجة للتغيير الجذري في النموذج الاقتصادي ونموذج الدولة اليابانية تجعل هذا التحدي كبيراً حتى بوجود الغطاء الاستراتيجي الأميركي. ويتوقع مراقبون أن تشهد اليابان واحدة من تلك الهزات الثقافية والسياسية.

من الواضح أن اغتيال الزعيم الكبير شينزو آبي ليس السبب الجوهري في التحولات المقبلة، لكنه عرض من أعراض تغيير يقرع الباب. فبعد تصفية طبقة الاقطاع العسكري للساموراي بثورة من فوق، وبعد تصفية تحالف المجمع الصناعي العسكري بعد الحرب العالمية الثانية بثورة من فوق أيضاً، تدخل اليابان مرحلة تجديد ثقافية وبنيوية للثورة ما بعد الصناعية.

وعندما تتغير اليابان فإنها تتغير فجأة وبالجملة ومن وفق وبشكل عاصف كما في ثورة المايجي! بل إنها تغير كل شيء من حولها في آسيا.

لكن هذه المرة اليابان هي بالفعل ثاني أقوى قوة بحرية في العالم على الإطلاق ومن دون منازع قريب. وهي ثالث أكبر اقتصاد في العالم، وبالتالي فإن الآثار المترتبة على هذا النوع من التحول ستكون هائلة. إنها إعادة لصعود نظام ياباني جديد في عصر ما بعد العولمة.

شاهد أيضاً

بأية حال تعود الانتخابات في أمريكا!

بقلم: سمير التقي – النهار العربي الشرق اليوم- كل ثلاثة او أربعة عقود، وفي سياق …