الرئيسية / مقالات رأي / ركود بلا تضخم

ركود بلا تضخم

بقلم: بول كروجمان – صحيفة الاتحاد

الشرق اليوم- حدث شيء ظريف في الطريق إلى أحدث زيادة لأسعار الفائدة أجراها الاحتياطي الاتحادي. فقد أقدم الاحتياطي الاتحادي بجرأة في 15 يونيو ورفع أسعار الفائدة التي يتحكم بها 75 نقطة أساس، أو 0.75 نقطة مئوية. وهذا ارتفاع حاد لمؤسسة تحاول عادة التحرك تدريجياً.

فلماذا الاستعجال؟ أوضح رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي، جيروم باول، أنه وزملاءه كانوا خائفين من أن تكون توقعات التضخم قد “انفلتت من المرساة”، وهو ما يجادل بعض الاقتصاديين بأنه قد يؤدي إلى “ترسيخ” التضخم. (الترسيخ المنفلت من المرساة وقت يتطلب استدعاء شرطة الاستعارات المتباينة!).

وذكر باول أن أحد العوامل المؤثرة في القرار تمثل في قفزة في مقياس جامعة ميشيغان لتوقعات التضخم على المدى الطويل، ووصفها بأنها كانت “ملفتةً للنظر”. وحذّرت أنا وآخرون من التعويل كثيراً على أرقام شهر واحد، خاصة وأن المقاييس الأخرى للتضخم المتوقع لم تشر إلى الاتجاه نفسه.

وللإنصاف، أقر باول بأن هذا كان رقماً أولياً قد يجري تنقيحه. وبالطبع تم تعديل الرقم لمستوى أقل. وتوقعات التضخم لا تَفلت من مرساتها فيما يبدو على أي حال.

والواقع أن القصة الكبيرة الآن هي انخفاض حاد في توقعات السوق للتضخم على المدى المتوسط. والتساوي لمدة خمس سنوات، في الفارق في أسعار الفائدة بين السندات الحكومية الأميركية العادية والسندات المحمية من التضخم المرتبطة بأسعار المستهلك، هو توقع ضمني للتضخم على مدى السنوات الخمس المقبلة، وقد انخفض نحو نقطة مئوية منذ مارس. والصورة الأساسية أفضل مما يوحي به هذا الرقم، لأن المستثمرين يعتقدون أنه قد يكون لدينا عام أو نحو ذلك فقط من التضخم المرتفع، وبعد ذلك سنعود إلى هدف الاحتياطي الاتحادي طويل الأمد الخاص بمعدل تضخم يبلغ 2% قياساً على معامل انكماش نفقات الاستهلاك الشخصي الذي يميل إلى أن يكون أقل قليلا من مؤشر أسعار المستهلك. واعتباراً من أول الشهر الجاري، هناك تقدير واحد قائم على السوق (يتماشى إلى حد ما مع التقديرات الأخرى) يسجل معدل تضخم يبلغ 4.4% خلال العام المقبل، لكن 2.2% فقط في السنوات الخمس التالية.

لماذا إذن هذه التقديرات مهمة؟ ليس لأن الأسواق المالية أو استطلاعات المستهلكين جيدة بشكل خاص في التنبؤ بالتضخم، إذ لم يتنبأ أي منهما بصعود التضخم عامي 2021 و2022، بل مربط الفرس هو أن معظم الاقتصاديين يعتقدون أن التضخم المتوقع هو محدِّد مهم للتضخم الفعلي.

لنفكر في الأسعار التي تم تحديدها مسبقاً قبل عام من الآن، مثل كثير من عقود الأجور وإيجارات المساكن وما إلى ذلك. ففي اقتصاد يتوقع فيه الجميع أن يقوم الجميع برفع الأجور بنسبة 10% خلال العام المقبل، يميل أصحاب العمل إلى تقديم زيادات بنسبة 10% في كل مرة تتم فيها إعادة التفاوض على الرواتب، لمواكبة هذا فحسب، حتى لو كان العرض والطلب على العمال متوازنين تقريباً.

وهذا يعني أن التضخم، بمجرد أن يصبح مترسخاً في التوقعات، قد يصبح مستداماً ذاتياً. والطريقة الوحيدة لتقليصه في الترتيب لفترة ممتدة يكون فيها الطلبُ أقلَّ من العرض، أي الركود. وهذا ليس سيناريو افتراضياً، بل هو ما كان عليه الحال بالفعل في بداية الثمانينيات، حين توقع الجميعُ استمرارَ التضخم المرتفع، واستغرق الأمرُ سنوات من البطالة المرتفعة للسيطرة على الأمور.

ومن المفهوم أن الاحتياطي الاتحادي لا يريد أن يجد نفسَه في هذا الموقف مرة أخرى، ولذا فهو شديد الحساسية لأي مؤشر على أن التضخم المتوقع قد يخرج عن نطاق السيطرة. وحالياً، لا توجد مثل هذه المؤشرات على ما يبدو. بل تشير بعض الدلائل في الواقع إلى أن الاحتياطي الاتحادي قد يكون على وشك الوقوع في أخطاء معاكسة لما حدث العامَ الماضي.

فحينذاك، تقاعس الاحتياطي الاتحادي عن التحرك ولم يستبصر التصاعد القائم للتضخم. فهل هو الآن متقاعس لكن في الاتجاه المعاكس ولا يرى التراجع الوشيك للتضخم؟ كي نكون منصفين، فأرقام الأسعار الرسمية لم تظهِر بعدُ تباطُؤَ التضخم.

والقياسات التي تستثني الأسعار المتقلبة للمواد الغذائية والطاقة، أو تستبعد حركات الأسعار المتطرفة التي تشير إلى تضخم أساسي مستقر إلى حد ما عند نحو 4% الذي يعتبره الاحتياطي الاتحادي مرتفعاً بشكل غير مقبول. لكن الأرقام غير الرسمية، وبعضها أحدث من البيانات الرسمية، تشير إلى أن قوى كثيرة دفعت التضخمَ في الآونة الأخيرة نحو المضي في الاتجاه المعاكس.

وعلى سبيل المثال، هل تذكرون أسعار الشحن؟ إنها تهبط. وعموماً، تحولت مشكلات سلسلة التوريد التي ساهمت في ارتفاع الأسعار إلى الاتجاه المعاكس. فكبار تجار التجزئة أفادوا بأن لديهم فائض مخزون كبيراً ويعتزمون خفض الأسعار في محاولة لسحب البضائع من الأرفف والمستودعات. فلماذا ينخفض ​​التضخم بسرعة؟

بغض النظر عن العوامل الخاصة، مثل الحرب الأوكرانية، يعتقد كثير من المحللين، وأنا منهم، أن صعودَ التضخم في الولايات المتحدة يرجع جزئياً إلى أن الإنفاق الحكومي والمال السهل تسبَّبَا في زيادة سخونة الاقتصاد. لكن حتى في ظل هذه السخونة الزائدة، كان المعدل الذي ارتفع به التضخم مثيراً للدهشة.

وتشير الأدلة التاريخية إلى أن منحنى فيليبس كان مسطحاً تماماً، أو بعبارة أخرى، لم يكن معدل التضخم حساساً كثيراً لمدى سخونة أو برودة الاقتصاد. لكن هذا ليس ما بدت عليه الأمور في عامي 2021 و2022، مما دفع كثيراً من الاقتصاديين إلى الاستنتاج بأن العلاقة بين الوظائف والتضخم تزداد قوةً حين يقترب الاقتصادُ من طاقته. لكن إذا كان التضخم شديدَ الحساسية للطلب في الاتجاه الصعودي، فمن المرجَّح أن يكون أيضاً شديد الحساسية في الاتجاه النزولي. ومع وجود أدلة متزايدة على أن الاقتصاد يَضعُفُ بسرعة كبيرة، فمن الممكن الآن أن يكون الاقتصاد قد تقلَّص بالفعل في الربع الثاني، ومن المنطقي فيما يبدو الإشارة إلى أن التضخم سينخفض ​​أيضاً بسرعة.

هذا، على أي حال، هو ما تتوقعه الأسواقُ فيما يبدو. والآن، هذا التقدم ضد التضخم، إذا حدث، ستكون له كلفة. ومن الواضح أن نمو الاقتصاد الأميركي يتباطأ، ويمكن بسهولة أن يكون الانكماش حاداً بما يكفي لاعتباره ركوداً، وقد يكون معتدلا على الأرجح. ولأنه سيستغرق بعض الوقت حتى يعكس التضخمُ ارتفاعَه بالكامل، فهناك فرصة جيدة أن نشهد فترة وجيزة من الركود الاقتصادي إلى جانب استمرار التضخم، أي “الركود التضخمي”.

لكن إذا كنتُ أنا، والأسواق، على صواب، فلن يستمر جزء “التضخمي” من هذا المصطلح طويلا. وفي وقت أقرب مما يظن كثيرون من الناس، قد يجد الاحتياطي الاتحادي نفسَه يرتَد عن مساره، في محاولة للتخلص من جزء “الركود”.

شاهد أيضاً

الأمل المستحيل لإسرائيل

بقلم: عاطف الغمري – صحيفة الخليج الشرق اليوم- عندما يطرح مركز بحوث أمريكي مؤيد دائماً …