الرئيسية / مقالات رأي / لننس السياسة.. المواجهة الأميركية مع الصين تكنولوجية بامتياز

لننس السياسة.. المواجهة الأميركية مع الصين تكنولوجية بامتياز

بقلم: علي قاسم – العرب اللندنية

الشرق اليوم – في عام 1971، فتح لقاء ودي بين الرياضيين الأميركيين والصينيين في مباريات بينغ بونغ جرى في اليابان، ولم يكن مبرمجا مسبقا، الطريق لدعوة رياضيين أميركيين لزيارة الصين. دعوة وافق عليها الرئيس ماو تسي تونغ شخصياً، ليصبح الرياضيون أول أميركيين يزورون الصين رسمياً منذ تولّى الشيوعيون الحكم.

القبول السلس لما يسمى بـ”دبلوماسية البينغ بونغ” أعاد بعضا من الثقة للعلاقات بين الجانبين. وفي يوليو 1971، ادعى هنري كيسنجر المرض أثناء رحلته إلى باكستان ولم يظهر علناً لمدة يوم. كان في الواقع في مهمة سرية للغاية إلى بكين للتفاوض مع رئيس مجلس الدولة الصيني تشو إن‌ لاي.

ما حدث بعد ذلك أشبه ما يكون بحكاية النملة والصرصار؛ بينما انشغل الصرصار الأميركي بالجانب السياسي، وبالطبع كان هناك أكثر من خلاف وأكثر من بؤرة صراع تكفي لإلهائه، كانت النملة الصينية تعمل بجد لتأمين مستقبلها الاقتصادي، وبحرص مدروس، حتى لا تثير ريبة الشريك الأميركي.

على مدى عقود سخر العالم، وفي طليعته الغرب، من الصناعات الصينية، وأصبحت تلك الصناعات مادة للتندر؛ كل ما يأتي من الصين، ليس فقط زهيد الثمن، ولكن سيء ويفترض أن نشتريه بالسرّ. من منّا لم يشعر بالخجل يوما لامتلاكه سلعة صينية أقلّ ما يقال عنها إنها مقلّدة.

أصبحت “عبارة صنع في الصين” تُذكر للسخرية والتهكم. وتحملت النملة الصينية النكات والإهانات بصمت، وراحت تعمل بجد، بينما الصرصار الأميركي يزهو بأنه حوّل الصين إلى ورشة عمل كبيرة تعمل على خدمته ليل نهار وبأجر زهيد. كل شيء في الظاهر كان يوحي بأن الشريك الأميركي هو الرابح في هذه العلاقة؛ سياسيا واقتصاديا.

فجأة وفي أقل من عشر سنوات، أصبحت العبارة ذاتها تثير المخاوف، إن لم يكن بين الأميركيين البسطاء، فحتما بين رجال الاقتصاد والسياسة. المنافسة لم تعد تقتصر على مصنوعات استهلاكية رخيصة بل تحولت إلى سباق محموم للسيطرة على التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي.

الصين كانت تدرك أنها لن تستطيع الاستمرار بلعبة التخفي إلى ما لا نهاية. حتما سيأتي يوم تظهر فيه الأرقام الحقيقة، وأن عليها أن تكون عندها مستعدة للانقلاب الأميركي ضدها.

ما حاولت الصين إخفاءه طويلا كشفته الأرقام. وأصبح على الذين ظنوا أن الحرب التجارية، التي أعلنها الرئيس السابق دونالد ترامب عام 2018 ضد الصين، موقف فردي ينتهي بنهاية ولايته أن يعيدوا التفكير بالأمر. فالحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين بدأت وهي على أشدها. رغم محاولة ذر الرماد في العيون وإنكار واشنطن وجود مثل هذه الحرب.

الحرب التي بدأها الجمهوري ترامب، يكملها الديمقراطي جو بايدن. في حقيقة الأمر، بدأت الحرب التجارية بين الدولتين عام 2015، عندما شكل البنتاغون فريقا بقيادة الجنرال روبرت سبالدينغ لصياغة استراتيجية جديدة للتعامل مع الصعود التكنولوجي للصين. ويعبر عنها خير تعبير كتاب سبالدينغ “حرب السرية: كيف سيطرت الصين بينما النخبة الأميركية نائمة”.

وخلال الأعوام القليلة الماضية ركزت الإدارة الأميركية على العلاقات مع بكين معتبرة أن الوضع الراهن لهذه العلاقات لا يمكن أن يستمر، وأن صعود الصين قد وصل إلى نقطة تحوّل.

واليوم، أصبح الصراع بين الولايات المتحدة والصين العنوان المفضل والأبرز لوسائل الإعلام.

تشعر بكين حاليا بثقة متزايدة وأنها قادرة بحلول نهاية العقد الجاري أن تتخطى اقتصاد الولايات المتحدة، ليصبح الاقتصاد الصيني الأكبر على المستوى العالمي.

ولا يقتصر النمو الصيني على الاقتصاد التقليدي فهي مستمرة في التقدم على جبهات أخرى؛ إذ تهدف الخطة السياسية الجديدة، التي أعلن عنها الخريف الماضي، إلى تمكين الصين من الهيمنة في جميع مجالات التكنولوجيا الجديدة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، بحلول العام 2035.

وتحاول واشنطن إضفاء صبغة سياسية على الصراع. فوفق تقرير نشره معهد جيتستون الأميركي، تحاول بكين كسب أكبر قدر ممكن من النقاط في معركتها تلك، وحذّر التقرير الحكومة الأميركية طالبا منها أن تعي ذلك جيدا.

لم ينس الرئيس الأميركي الجمهوري السابق دونالد ترامب أصوات الأميركيين في “ولايات الصدأ” التي خسر سكانها وظائفهم بسبب الصين وكان لها الفضل الأكبر في وصوله إلى البيت الأبيض، واستغل انتشار فايروس كوفيد – 19، الذي انطلق من مدينة ووهان الصينية، ليوجه اللوم لحكومة بكين ويتهمها بعدم الشفافية.

استغل ترامب اتهامات موجهة لحكومة بكين بتشجيع الشركات الصينية على سرقة الملكية الفكرية ليطلق حربه التجارية عليها في العام 2018.

بايدن ذهب خطوة أبعد من ترامب في المواجهة مع الصين. فانتهاك الملكية الفكرية لا يكفي وحده لشن حرب اقتصادية طاحنة ضدها، لا بد من البحث عن مبررات أخلاقية يقبلها الرأي العام الأميركي والعالمي.

لم يكن العثور على هذه المبررات صعبا؛ الأدراج مليئة بالملفات، واحد منها، وأهمها، ملف حقوق الإنسان والحريات الفردية. وهذا ما قاله بوضوح شديد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، مؤكدا أن السياسة الأميركية ستركز من الآن فصاعدا على الجهود الرامية إلى إعادة “تشكيل البيئة الاستراتيجية المحيطة ببكين”.

يفهم من هذا أن التنافس مع الصين سيكون هو الهدف، بدلا من المواجهة مباشرة عبر المشهد الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري على مدى العقد المقبل.

بكين، يقول بلينكن، أتقنت المراقبة الجماعية داخل الصين وصدّرت تلك التكنولوجيا إلى أكثر من مئة وثمانين دولة.

وفي إشارة إلى الرفض الأميركي للكيفية التي تعزز بها الصادرات التكنولوجية الصينية جهود بكين للسيطرة على الأسواق وتطبيع استخدام المراقبة والبيانات الضخمة والتحليلات لتأجيج القمع وخنق المعارضة، قال بلينكن إن الولايات المتحدة وشركاءها ذوي التفكير المماثل يتصورون مستقبلا “يتم فيه استخدام التكنولوجيا لرفع مستوى الأشخاص، وليس قمعهم”.

الاتهام جاهز ومعد بإتقان، وما على واشنطن سوى الشروع بالتنفيذ. والسؤال هو كيف ستواجه الولايات المتحدة الشركات التكنولوجية العملاقة وفق هذه الرؤية؟ وإلى أيّ مدى ترغب الولايات المتحدة في الذهاب إلى مواجهة شركات التكنولوجيا الصينية التي تتهمها بتمكين انتهاكات حقوق الإنسان داخل الصين وخارجها؟

ترامب مهد الطريق بإعلان الحرب على عملاقي التكنولوجيا الصينية، هواوي وزد تي إيه. والإدارة الأميركية الحالية تخطط لإضافة شركة “هيكفيجن”، أكبر منتج في العالم لمعدات وخدمات المراقبة بالفيديو، إلى نظام العقوبات الأكثر صرامة في الولايات المتحدة.

لا ينبغي التقليل من أهمية شركة هيكفيجن وما تمثله بالنسبة إلى طموحات الصين لقيادة العالم في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030. فهي أكبر شركة للذكاء الاصطناعي في الصين، وواحدة من “الأبطال الوطنيين” للذكاء الاصطناعي فيها.

النملة الصينية كانت تعلم أنها ستواجه عاجلا أم آجلا انقلابا في موقف الصرصار الأميركي، لذلك عملت على خلق علاقات وتمتين روابط يصعب كسرها مع دول عديدة في آسيا وأفريقيا وفي أوروبا. وسيكون على الولايات المتحدة أن تواجه مئة وثمانين دولة هي اليوم زبائن تستخدم تكنولوجيا النملة الصينية.

شاهد أيضاً

روسيا التي لا تساند أحداً… علاقة غير عادلة مع إيران

بقلم: يوسف بدر – النهار العربي الشرق اليوم– في مقالته في صحيفة “وول ستريت جورنال” …