الرئيسية / مقالات رأي / أمريكا وما تفعله بنا وبغيرنا

أمريكا وما تفعله بنا وبغيرنا

بقلم: جميل مطر – صحيفة الخليج

الشرق اليوم- بعد طول تردد تبدو أمريكا الآن واثقة بما تفعل وبما تريد منا ومن غيرنا. تبدو واثقة بمعنى أن سياساتها الخارجية صارت تحظى بما يشبه إجماع الداخل. الإعلام على تنويعاته بل وخصوماته الإيديولوجية وولاءاته المتصلبة يقف موحداً ومؤيداً لمواقف وسياسات الحكومة وفي أحيان مزايداً عليها. والكونغرس المنقسم على نفسه معظم الوقت ونصفه أو أكثر من نصفه معترض على سياسات الحزب الحاكم لا يجد الآن خطأ واحداً مهماً في هذه السياسات وفي أحيان يضغط عليها لتزيد. توحدت، أو بدت موحدة، السلطتان التنفيذية والتشريعية، وعلى مسافة قصيرة جداً تقف الجماعة العسكرية بمعناها الواسع مشجعة أو لعلها صاحبة المبادرة والفعل حسب فهم ومتابعة كثير من المعلقين.

 أسمع وأقرأ منذ سنوات بخاصة منذ انكشف المدى الذي انحدرت إليه القوة الأمريكية الشاملة، تحليلات تحذر من تنامي مظاهر الانحدار الأمريكي. كثيراً ما أعرب محللون عن خشيتهم من أن تصل إلى الحكم إدارة عازمة على وقف هذا الانحدار واستعادة أمريكا العظمى والقوية بأي ثمن، فتجرب وتفشل بسبب تعقيدات عديدة. استند المحللون في خشيتهم إلى سوابق في السياسة الدولية حين لجأت دول إلى إثارة أزمات دولية تحد بها من احتمالات بزوغ قوى منافسة وتمنع هذه القوى من استغلال الضعف النسبي الذي طرأ على مواقع قوتها ومكانتها.

 لسنا في حاجة إلى عالم سياسة أو أستاذ في علوم الاستراتيجية ليقرر لنا أن ما فعلته أمريكا وما اتخذته من قرارات وما نفذت من سياسات خلال الشهور القليلة الماضية، شهور الأزمة الأوكرانية، جاءت محصلته حتى الآن لغير صالح أوكرانيا ولغير صالح أوروبا ولغير صالح العالم خارج منطقة الصراع المباشر. وهنا أضع الشرق الأوسط الذي يعنيني شخصياً أكثر من غيره، ثم أذهب إلى قلب الفعل وهو الولايات المتحدة، هل فعلاً يمكن القول إن الولايات المتحدة نفسها أصبحت في وضع أفضل مما كانت عليه قبل أن تطلق واشنطن سلاسل العقوبات المفروضة الآن على روسيا وعلى أوروبا؟ هناك من كان يعتقد أنها حققت لنفسها مكسباً كبيراً حين استطاعت في مطلع الأزمة توحيد دول الغرب تحت قيادتها.

لا أحد يستطيع أن يجزم أن أمريكا كانت تتعرض لخطر داهم عندما قرر الرئيس بايدن تحريك الحلف الأطلسي من قواعده النائمة على امتداد عقود ليتأهب لمساعدة أوكرانيا على الصمود في وجه جيوش الاتحاد الروسي الرابضة على الحدود. لم يعرض بايدن على رئيس أوكرانيا بديلاً لحرب غير متناسبة بين روسيا وأوكرانيا. لم يقترح وهو قادر على إقناع الرئيس زيلينسكي بأن يعلن نيته عدم الانضمام إلى الحلف في الحال وفي المستقبل، واستعداده للتوصل إلى تفاهم دبلوماسي يعيد تشكيل العلاقة الروسية الأوكرانية على أسس تناسب الخلفية التاريخية وواقع الجوار. كان يمكن لأمريكا أن تساعد في الوصول إلى هذا التفاهم ولكن أمريكا لم تحاول. أصرت على الاستمرار في دفع الرئيس الأوكراني للسير على طريق استفزاز الروس حتى أنه توسل في مرحلة مبكرة إلى الأمريكيين بخاصة ألا يستمروا في تصعيد الأجواء في اتجاه حرب لا أمل لأوكرانيا في الفوز فيها.

 هذه المرحلة كمراحل أخرى في الأزمة بدت فيها الأطراف كأنها مجموعة من الممثلين يلعبون أدواراً فصلت لهم ولم يستعدوا لها. نذكر وعود الرئيس بايدين وجهاز حكمه للأوروبيين بأن أمريكا تضمن لهم مصادر طاقة تغني عن المصدر الروسي. ولا نذكر أنه وحكومته اهتموا باحتمال مجاعة تهز أركان الاستقرار في عديد الدول المعتمدة على قمح أوكرانيا وروسيا. فرض على روسيا حكومة وشعباً عقوبات لم نسمع أن عقوبات بحجمها وشراستها فرضتها دولة على أخرى في غياب حالة حرب معلنة.

 من المفارقات المذهلة في هذا الاندفاع غير المدروس بعناية من جانب الإدارة الأمريكية قرار الحكومة الألمانية تخصيص صندوق بمبالغ كبيرة لتسليح ألمانيا. نشأنا وتعلمنا سياسة ومارسنا جانباً منها في ظل قاعدة استقرت على احترامها والتزامها كل دول أوروبا وفي صدارتها ألمانيا نفسها شعباً وحكومات، تنص القاعدة على أن سلام القارة الأوروبية وأمنها يقومان على التزام ألمانيا بمبدأ عدم التسلح.

مثير للقلق في كل مكان أن العقل الذي يسمح بأن يكون في كل بيت أمريكي قطعة سلاح أو أكثر هو ذاته الذي يتصدى لمسؤولية حفظ الأمن في العالم. عشت شخصياً كافة مراحل تطور وتدهور النظام الدولي المعاصر. أزعم، وأحتاج بالفعل لمن يناقش هذا الزعم، أن العالم لم يعش مرحلة شديدة الاضطراب ومتعددة الأزمات وعنيفة التصرفات كالمرحلة التي نعيشها منذ آلت قيادة النظام الدولي إلى قطب أوحد، وهو في هذه الحالة القطب الأمريكي.

 واحدة من أقدر المحللات والمحللين السياسيين في قنوات التلفزيون الناطقة بالإسبانية كتبت لي رسالة شخصية تعلق فيها على إنجازات حكومة الديمقراطيين في الولايات المتحدة. جاء في نهاية الرسالة إشارة شبه ساخرة إلى رحلات الرئيس الأمريكي في الخارج. قالت عنه “سافر إلى أوروبا فتوالت كوارثها الاقتصادية وعادت الانقسامات وتفككت وحدة الغرب التي نتجت عن الحرب الروسية الأوكرانية والتي طالما أفاض في نسبتها إلى سياساته الحكيمة. ثم سافر إلى شرق آسيا فاشتعلت الأجواء بمناورات عسكرية يجريها هذا الطرف أو ذاك وبتصريحات سياسية وعسكرية متبادلة بعدوانية غير معهودة واستفزاز مثير لأعصاب شعوب المنطقة. عادت تغلي مياه كل مضائق بحر الصين الشرقي بالتوتر ولغة الحرب. نحن في أمريكا الجنوبية نشكر الظروف التي سمحت بأن ينعقد المؤتمر الدوري لمنظمة الوحدة الأمريكية في مدينة لوس أنجلوس في الولايات المتحدة”.

ختمت الصديقة من أمريكا الجنوبية رسالتها بالإعراب عن الأمل في ألا تتم زيارة الرئيس للشرق الأوسط، إذ تعترف أنها لا تنتظر خيراً من هذه الزيارة ولديها سببان، أولهما أن أمريكا لم تغفر للعرب إجماعهم على موقف جديد من مجمل الصراع بين أمريكا وكل من روسيا والصين، وثانيهما أن الصراع العربي الإسرائيلي صار يظهر غير ما يبطن.

 نجحت سياسات أمريكا في فرض تغييرات على أوجه معينة في علاقات الطرفين ببعضهما وعجزت عن الوصول إلى قلب الصراع. ولهذا العجز تداعيات أهمها الاقتناع المتزايد لدى أغلبية متزايدة العدد في قطاعات صنّاع الرأي في العالم العربي بأن أمريكا هي صانعة هذا العجز أو طرف أساسي في صنعه، وهو ما أثبتته قطعياً ردود فعل أمريكا المخزية على اغتيال إسرائيل الصحفية الفلسطينية الأمريكية شيرين أبو عاقلة. أثبتته أيضاً مواقف أمريكا المتقلبة في الآونة الأخيرة تجاه حليفاتها من الدول العربية المنتجة للنفط والغاز. عالم في هذه الحال المضطربة هو في أمس الحاجة لقيادة مسؤولة وواعية ورشيدة.

شاهد أيضاً

بأية حال تعود الانتخابات في أمريكا!

بقلم: سمير التقي – النهار العربي الشرق اليوم- كل ثلاثة او أربعة عقود، وفي سياق …