الرئيسية / مقالات رأي / طغيان السّياسة وتقزيم الحرب

طغيان السّياسة وتقزيم الحرب

بقلم: حسن إسميك – النهار العربي

الشرق اليوم – لماذا قامت الحرب بين روسيا وأوكرانيا، لماذا تحركت الجيوش والأنظمة الدفاعية والطائرات ومنظومات الصواريخ، هل تريد روسيا هزيمة أوكرانيا وإنهاء تلك الدولة؟ وهل حقاَ الثانية غير مبالية بأن تتحدى الأولى؟ أم هي تريد الدفاع عن نفسها وحسب؟ ألم يكن بالإمكان أن تحقق كلٌّ منهما أهدافها وغاياتها بأدوات أخرى أقلّ كارثية؟ ألم يكن في الإمكان تفادي هذه الحرب المدمرة وويلاتها لو احتكمتا إلى صوت العقل أو اللوغوس؟ وأيضاً، ماذا يريد الغرب من تلك الحرب التي دفع بدوره إليها بشكل أو بآخر، ولا يزال يدعم أوكرانيا كي يمتد أمد الحرب؟ مرة أخرى، هل يريدون إنهاء روسيا؟ هل يُعدّ أي من الأطراف العدة للنصر؟ 

تحدثت في مناسبات ومقالات سابقة عن أن “النصر” بمفهومه التقليدي، مثله مثل الحرب، قد انتهى في عالمنا المعاصر، ولم يعد هنالك غالب ومغلوب في الحروب، ليس فقط من ناحية الخسائر الكبيرة التي لا بد من أن يتكبدها الطرفان، بل كذلك بسبب تحوّله – أي النصر – إلى مفهوم نسبي، بخاصة في ظل الحروب التي تتم بين دولة وكيان دونَ دولي. من المنتصر في حرب تموز (يوليو) 2006 بين إسرائيل و”حزب الله”؟ من المنتصر في حرب الولايات المتحدة مع “طالبان” و”القاعدة” في أفغانستان؟ والأمثلة المشابهة كثيرة ومتنوعة.

انتفاء مفهوم “النصر النهائي” أو “الحاسم” أو “المؤزر”… ليس بالأمر الجيد على الإطلاق، لأنه يجعل من الحرب التي يجب أن تكون آخر الدواء، والحل الأخير الذي لا يتم اللجوء له إلا عند استنفاد كل الحلول الأخرى، مجرد أداة عادية، كغيرها من أدوات السياسة، قد تنجح أو تفشل، ويمكن الاستمرار بسهولة بعدها وكأن أمراً جليلاً لم يكن. ما يعني أن دخول الحرب بات يشبه دخول المفاوضات، تفشل جولة، فيتابع السياسيون، أو يبدأون من جديد، هكذا بكل بساطة.

يدرك السياسيون والقادة هذه الحقيقة، ولا أظن أن أياً من طرفي الحرب الأوكرانية اليوم مثلاً يفكر حقاً بالنصر، فجلّ ما يفكرون به هو الردع واستنزاف الآخر. لقد صارت الحرب، رغم كل ما تحمله من دمار وضحايا وويلات، أقرب إلى أداة عادية من أدوات السياسة، وسيلة فقط يُفترض أن تبررها غايات مستهدفة، لكن الغايات من وراء حروب اليوم لم تعد كافية لتبرير كل هذا القدر المتعاظم من العنف المتبادل.

أعادني التأمل في هذه الأفكار إلى كتيب قديم للفيلسوفة الألمانية الأميركية حنة آرنت بعنوان “في العنف”، صدر على شكل مقالة مطولة استلهمت المؤلفة موضوعها من التحولات السياسية الكبيرة التي حدثت خلال القرن العشرين. تقول آرنت في المقدمة منذ أكثر من نصف قرن: «الحال أن أدوات العنف قد تطورت تقنياً إلى درجة لم يعد من الممكن معها القول إن ثمة غاية سياسية تتناسب مع قدرتها التدميرية، أو تبرر استخدامها حالياً في الصراعات المسلحة»، لذا وصفت آرنت المجريات على الساحة العالمية بأنها “ألعاب شطرنج كارثية” تقوم بين القوى العظمى التي تلعب على قاعدة “أياً كان الفائز سيسفر الصراع عن نهاية الاثنين”، وهي لعبة كما تقول الفيلسوفة الألمانية «لا يقوم هدفها “العقلاني” في إحراز النصر، بل في ردع الطرف الآخر. أما سباق التسلح فيقوم على أن المزيد من الردع هو خير ضامن للسلام».

هنا يبدأ اختلافي مع آرنت التي رأت أيضاً في الكتاب ذاته أن «التطور التقني لأدوات العنف قد وصل الآن إلى نقطة حيث لا يمكن تصور أي هدف سياسي يتوافق مع إمكاناتها التدميرية أو يبرر استخدامها الفعلي في النزاع المسلح»، وجعلت من هذه الفرضية الخط المفاهيمي الدائم لكتابها كله، وعلى أساسه توقعت أن «أولئك الذين بذلوا الجهود من أجل تطوير وسائل الدمار، قد توصلوا في نهاية الأمر إلى تحقق مستوى من التطور التقني بات معه من المؤكد أن غايتهم ذاتها، أي الحرب، باتت على وشك أن تزول بفعل الوسائل المتوفرة نفسها».

لم تتحقق “نبوءة” آرنت هذه، وكما يعلم الجميع، الحروب باقية ومستمرة وفي تزايد مطرد أيضاً، ولم تعد مسارحها مقتصرة على الدولة “المتخلفة” أو دول ما يُسمى “العالم الثالث”، بل باتت على أعتاب أوروبا قلب “العالم المتحضر”.

من جهة أخرى.. فقد أظهرت كل الحوادث التي لحقت صدور كتاب آرنت أن العنف مفهوم “ساحر”، وأن الدول لن تتخلى عنه بالسهولة التي توقعتها هي. ربما صحيح جداً القول إن تطور الأسلحة النووية وامتلاكها من قبل الكتلتين (الرأسمالية والاشتراكية) قد أسهم في تثبيط التهديد بحرب نووية أو حرب عالمية ثالثة طيلة أمد الحرب الباردة، وبعدها بقليل من الوقت، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن عصر العنف قد انتهى أو أن استخدام العنف قد انخفض انخفاضاً حقيقياً وفعلياً.

وكل ما حدث هو تغييرات طفيفة لا تمس جوهر العنف ولا أعماقه، بل على العكس، حين تجعل منه خياراً سهلاً، وهذا يزيد الأمور خطورة، فـ”تقزيم” الحرب لتصبح كغيرها مجرد أداة من أدوات السياسيين هو طغيان للسياسة غير مسبوق على مدى التاريخ.

حتى مفهوم الردع، الذي تحدثت عنه آرنت، لم يعد، بأي شكل من الأشكال، هو “أفضل ضمان للسلام”، ولا أظنه قد كان كذلك من قبل، فانتفاء التهديد بالحرب زمن الحرب الباردة – برأيي – كان بسبب الاتفاق على تقاسم الهيمنة بين القوى العظمى، بما يحفظ ويصون نظام الثنائية القطبية، الاتحاد السوفياتي له محيطه في أوروبا الشرقية، وأوروبا، الضعيفة نسبياً، لها أفريقيا، وقد عبّر جورج كينان عن عدم اهتمام الولايات المتحدة بأفريقيا حينها ووجوب ترك أمرها للأوروبيين إذا أرادوا، حيث قال: “سوف تتولى أوروبا الغربية بشكل مشترك التنمية الاقتصادية واستغلال المناطق المستعمرة والتابعة في القارة الأفريقية”، وبقية العالم كانت حصة أميركا!

وعلى هذا الأساس تمت عولمة العنف، ونقله من “العالم المتحضر” حين كانت معظم الحروب وأشرسها تدور على أرض القارة الأوروبية، إلى كل أنحاء العالم الأخرى. لم ينهِ الردع العنف أو الحرب، بل عولمتهما “الهيمنة”، وهذا نموذج آخر صارخ عن طغيان السياسة. واليوم.. عندما تخلخل قليلاً التوازن القائم على تقاسم النفوذ، أي عندما بدأت أوكرانيا بالميل أكثر باتجاه الغرب، وصار من الممكن أن يصل حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى حدود روسيا، اندلعت الحرب على الفور، وانخرطت فيها القوى العظمى التقليدية كلها، ولم يعد التهديد النووي مستبعداً على الإطلاق، رغم أن كلا الطرفين المتحاربين يملك من هذه الأسلحة ما يمكّنه من إنهاء البشرية كلها.

ورغم اتساقها المنطقي وبنيتها المتماسكة، لا يمكن تطبيق أفكار آرنت على ما يعيشه العالم اليوم، فهي لا تغطي المفهوم المعاصر للعنف، وهذا مبرر إلى حد كبير، فالكتاب بالأساس موجه إلى جمهورين أساسيين، الأول هو السلطات التي سعت إلى اتخاذ تدابير تصحيحية لإعادة الهدوء إلى الجامعات الأميركية؛ والثاني هو الطلاب الذين تسببوا في اضطرابات في جميع أنحاء البلاد، وفي مناطق أخرى من العالم على امتداد ستينات القرن الماضي. وارتأت آرنت أن لدى السلطات القدرة على مقاومة العنف إذا استخدمت صلاحياتها بالشكل المناسب، ورفضت – عقلياً – رؤية “اليسار الجديد” للعنف كغاية في حد ذاته أو حتى كوسيلة لإحداث تحول في هيكل السلطة. دانت آرنت فشل اليسار الجديد في فهم الماركسية، وأظهرت أنه يؤسس أفكاره على الاضطرابات والأحوال الطارئة. وبدلاً من ذلك، جادلت تلميذة هيدغر بأن القوة هي قدرة الكيان الاجتماعي على التصرف بشكل متضافر يوفر للأفراد إمكان العمل معاً.. ولذلك فهي (أي القوة) جوهر ونهاية كل حكم.

ليس من المستغرب أن تبحث آرنت في كتاباتها عن “النهاية السعيدة”، فالفيلسوفة التي كانت ترفض أن تُصنف كفيلسوفة بل كمنظرة سياسية، تأثرت كثيراً بما عاشته من حوادث وويلات، وهي اليهودية التي أحبت أستاذها الفيلسوف الذي اتضح لاحقاً أنه مناصر للنازية، والتي اضطرت أن تهرب إلى فرنسا وبعدها إلى الولايات المتحدة، تاركة بلدها ألمانيا يرزح تحت نير هتلر، الأمر الذي جعل همّ آرنت الأكبر محاربة كل فكر شمولي (توليتاري)، ومحاولة التأسيس لنظام سياسي عالمي تسوده الحرية أولاً، وكذلك احترام حقوق الإنسان.

كل ما سبق يبرر انسياق فكر آرنت نحو “مهرب تفاؤلي”، إذا جاز التعبير، تجد فيه ملاذاً وترى من منطلقه أن الحرب ستنتفي يوماً، وأن الليبرالية التي وجدتها في وطنها الجديد، هي الأسمى وهي التي ستسود في النهاية.

ولا شك في أن ما أورده من ملاحظات لا يقلل من أهمية كتاب آرنت وحداثة ما كانت تفكر به، فقد شكّل الكتاب قفزة في عصره من ناحية إعادة تعريف مفاهيم أساسية، مثل السلطة والقوة والعنف، بالإضافة إلى الإرهاب، والبحث في العلاقات القائمة بينها. بالنسبة إلى آرنت «القوة والعنف متضادان: فحين يحكم أحدهما حكماً مطلقاً يغيب الآخر. يظهر العنف حين تكون السلطة في خطر (…) يمكن للعنف أن يدمّر السلطة، وهو بالضرورة عاجز عن خلقها»، كذلك تتمسك الكاتبة في ختام مؤلفها بأن «ممارسة العنف، مثل كل فعل آخر، من شأنها أن تغير العالم، لكن التبدل الأكثر رجحاناً سيكون تبدلاً في اتجاه عالم أكثر عنفاً».

يُظهر كلام آرنت هذا حجم المعضلة التي كانت واقعة فيها، والتي أوجدها ما رأته من تناقض بين مساوئ الفعل العنيف وأخطاره وتهديداته، وإصرار البشرية على التمسك به، من جهة؛ وبين اعتقادها من جهة أخرى أن التطور التكنولوجي، وبالتالي تزايد كلف الحروب، سيؤدي إلى ابتعاد العالم عنها. لكن ما حصل، ويحصل دائماً، هو استمرار اندلاعها في أماكن كثيرة من العالم. ورغم رفض السياسيين للعنف وتنصلهم منه دائماً، ما زالت الممارسات العنفية تتخلل الساحة العالمية في كل مفاصلها بين الأفراد والكيانات والدول، وما زال التعامل مع العنف وطبيعته التعسفية يُظهره وكأنه شيء اعتيادي وتحصيل حاصل في السياسة، أو كما يعرفه إنغلز بأنه “معجل التنمية الاقتصادية”؛ وما زال السياسيون يتعاملون مع الحرب وكأنها ظاهرة هامشية، ومن هذه الجهة يصح وصف كارل كلاوزفيتز لها بأنها “استمرار للسياسة بوسائل أخرى”.

للأسف لا تزال هذه المعضلة (رفض العنف نظرياً والإصرار عليه عملياً) قائمة إلى يومنا هذا، ولا أظن أن أحداً من أنصار اللاعنف لم يعان منها، فالكل بات يعلم أن الفرق «بين الفعل العنيف واللاعنفي هو أن الأول مصمم حصرياً على تدمير القديم، والأخير معني بشكل رئيس بإنشاء شيء جديد» على حد تعبير آرنت، فالأول يهدم والثاني يبني، وربما لذلك لا يزال العالم متمسكاً بالأول، رغم كل ما يحمله من مآسٍ، ولا توحي الحوادث التي نشهدها على المسرح العالمي اليوم بأي تغير في هذا الاتجاه، بل بمزيد من الإمعان فيه، وكل ذلك يحدث تحت الذريعة الشهيرة “هكذا هي السياسة”، وأن “الغاية تبرر الوسيلة”!

مرة أخيرة أقول ما قالته آرنت سابقاً: لا ينتج من الفعل السياسي بالضرورة “منتج نهائي” يمكن اعتباره شيئاً معيناً مستقراً وملموساً في العالم، وبالتالي لا يمكن الحكم على هذا “الفعل” من خلال غاياته، فقد لا يصل إليها أبداً، فكيف إذا كان هذا الفعل حرباً.. إن ما يجري اليوم في غير مكان من العالم ليس سياسة، بل هو “طغيان السياسة”، ويبدو أن استمراره سيحمل نتائج كارثية على البشرية كلها.

ما أود تفصيله في النهاية بشكل يتجاوز تعقيد أسلوب آرنت الفلسفي، أن انتقادها لسيطرة السياسة على الحروب وتحكمها بها، هو السبب الرئيس في استمرارها (استمرار الحروب طبعاً)، أي على العكس مما توقعته الفيلسوفة التي قالت منذ البداية: «من هنا نجد أن الحروب التي كانت منذ غابر الأزمان الحكم النهائي والذي لا يرحم في الصراعات الدولية، إنما فقدت الكثير من فعاليتها، كما فقدت مجدها الباهر كله تقريباً»، وسيكون استنتاج آرنت هذا صحيحاً لو أن الحروب بقيت كما كانت عليه من قبل، أي القرار الذي يفرض نفسه عندما تفشل كل الخيارات الممكنة، أما أن تتحول الحرب بكل “هيبتها” إلى مجرد خيار بين خيارات عدة بيد السياسة، وقد يُلوّح به أحياناً منذ البداية، فإن هذا التقزيم للحرب لن يقضي عليها، بل سيمعن في زيادتها، وقد تحقق ذلك وما زال، وكأنه وجه آخر لصدق نبوءة الفيلسوف اليوناني هيراقليطس عندما قال إن “الحرب هي أبو الأشياء جميعها”!

شاهد أيضاً

إسرائيل تختار الصفقة بدلاً من الرد الاستعراضي

بقلم: علي حمادة – صحيفة النهار العربي الشرق اليوم– تجنبت ايران رداً إسرائيلياً استعراضياً يفرغ …