الرئيسية / مقالات رأي / أردوغان لا يريد أن يزعجه أحد

أردوغان لا يريد أن يزعجه أحد

بقلم: طوني فرنسيس – اندبندنت عربية

الشرق اليوم– يصرّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على إنجاز شريطه الأمني في شمال سوريا، على طول الحدود وبعمق 30 كيلومتراً. هو الآن يستعد لما يشبه الخطوة الأخيرة في مشروعه هذا تتويجاً لسلسلة عمليات ذات أسماء موحية، “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام” و”درع الربيع”.

 جميع هذه الأسماء “اللطيفة” خُصّصت للهجمات داخل سوريا، أما العراق، فقد استحق اسماً أكثر ضراوة لدى اختراق حدوده في مطاردات لا تنتهي لحزب العمال الكردستاني، وكان “المخلب” ذلك الاسم.

يقول أردوغان “لا نريد أن يزعجنا أحد” في منطقتنا الأمنية السورية. وهذا لن يتم إلا بعد القضاء على الإرهابيين. والإرهابيون في التعريف التركي هم الأكراد الذين يقاتلون تحت راية “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ويقيمون علاقات متينة مع القوات الأميركية شرق سوريا وتعاوناً لم ينقطع مع القوات الروسية، وهذا ما جعل الروس والأميركيين المشتبكين في صراع دولي حول أوكرانيا “يتفقان” على مطالبة الأتراك بإعادة النظر في نواياهم العسكرية بشأن هجوم جديد.

لكن أردوغان الذي يستعد لانتخابات رئاسية العام المقبل لا يبدو مهيئاً للتراجع عن خططه. فعملية من هذا النوع ستحسّن موقعه في تلك الانتخابات في ظروف صعوبات تركيا الداخلية الاقتصادية والمالية، وتعقيدات المناخ الدولي حول أوكرانيا، التي تزيد حاجة الأميركيين والروس معاً إلى تركيا، واضطرار روسيا إلى سحب بعض قواتها من سوريا إلى ساحة المعارك الجديدة في أوكرانيا، عوامل تدفع تركيا إلى اعتبار الفرصة سانحة للتوسع في سوريا، التي تحولت بعد عقد من الاقتتال والتدخلات الخارجية إلى ساحة تجارب واقتسام.

يشبه مشروع الشريط الأمني التركي بعرض 30 كيلومتراً المطروح حالياً في سوريا، ما طرحته إسرائيل بقيادة مناحيم بيغن قبل 40 عاماً بالضبط في لبنان. ففي مثل هذه الأيام من شهر يونيو (حزيران) 1982، بدأت إسرائيل غزوها للبنان وأبلغت أمريكا ودولاً أخرى أنها ستتوغل مسافة 40 كيلومتراً لطرد قوات منظمة التحرير الفلسطينية عن حدودها ومنعها من القدرة على قصفها بالصواريخ. كان الاهتراء اللبناني يومها يشبه إلى حد بعيد نظيره السوري القائم حالياً. بلد منقسم داخلياً تسيطر على أجزاء منه القوات السورية، جنوبه تحت سيطرة ميليشيات تمولها إسرائيل من جهة، ومنظمات فلسطينية متناحرة مع السكان من جهة أخرى، وفي أرجائه ميليشيات طائفية ومتعددة الانتماءات تتوزعها مرجعيات إقليمية ودولية راعية.

كان الوضع اللبناني يشبه إلى حد بعيد مثيله السوري اليوم. ففي سوريا حيث يحمل نصف عدد السكان صفة نازح أو مهجر ولاجئ، يقيم البلد على انقسام من دون آفاق حل. أتراك وإيرانيون وروس وأميركيون يتوزعون على أراضي الدولة، ورئيس في دمشق تكاد سلطاته تساوي سلطات الرئيس اللبناني الياس سركيس في لحظة الغزو الإسرائيلي.

كل شيء في سوريا يغري بالاقتطاع وباستعادة تجربة بيغن (وغيره) في لبنان. أردوغان يفكر ويخطط وهو أصلاً يسيطر بمقتضى اتفاقات أستانا على منطقة شاسعة في إدلب، سيسمح إلحاقها بشريط أمني على طول الحدود الشمالية بإقامة نقاط نفوذ وربما توسع “عثماني” لاحق، والأمريكيون يتمسكون بشرق يحوي 90 في المئة من احتياطات النفط السورية، والروس يمسكون بالساحل وقاعدتيه البحرية والجوية، والإيرانيون يتحيّنون الفرص للتوسع على قاعدة العداء للأتراك والتغازل مع الأميركيين واقتناص فرص الانكفاء الروسي المحتمل، ويسعون خصوصاً إلى بناء نقاط ارتكاز في الجنوب، قريباً من الحدود الإسرائيلية والأردنية، للإبقاء على العناوين الأيديولوجية للسلطة الإيرانية حيّة في مواجهة “الكيان الصهيوني” والشيطان الأكبر وأتباعهما.

لكن المهمة الإيرانية في التوسع على حساب الأطراف الآخرين لا تبدو سهلة. فإذا كانت تركيا هي الأكثر قدرة على استغلال حاجة أمريكا وروسيا إليها في الظروف الراهنة، بالتالي ستبقى خططها في الشمال السوري مرهونة بموقفي هذين الطرفين، فإن فرص إيران في استغلال الأوضاع ستبقى ضئيلة في الشمال حيث الوجود الروسي والأمريكي وفي الجنوب حيث تستمر التوافقات الإسرائيلية الروسية برعاية أميركية في ترسيم أدوار مختلف الأطراف.

حتى الآن تبدو موسكو وواشنطن متوافقتين على لجم العملية التركية.

فأمريكا التي تعتبر الشمال السوري ضمن نطاق منطقة عملياتها أعلنت معارضتها أي هجوم تركي “لأنه سيعرض المنطقة للخطر”، على ما صرّح وزير الخارجية أنتوني بلينكن، وموسكو، بدورها “تأمل في أن تمتنع تركيا عن أعمال قد تؤدي إلى تدهور خطير للأوضاع في سوريا”، على ما قالت ماريا زاخاروفا، الناطقة بلسان الخارجية الروسية.

بدت التقييمات الروسية والأمريكية لدقة الوضع متشابهة حتى في التحذير من المخاطر، لكن الإعلام الإيراني استمر، ومعه إعلام النظام السوري، في الحديث عن “العدوان التركي”. يوم السبت الماضي، دان عدواناً تركياً على تل تمر. وفي اليوم ذاته، كان الروس حلفاء النظام وإيران ينظمون طلعات جوية فوق ريف حلب ويستقدمون منظومة دفاع جوي إلى مطار القامشلي ويرفضون حضور الإيرانيين لقاءً جمعهم مع “قسد”.

“وكالة الأناضول” لا تقصّر في توصيف الشريك الإيراني، وفي وصفها لتحركات الروس تجزم قائلة، “تسعى القوات الروسية إلى منع الجماعات الإرهابية المدعومة من إيران من زيادة نفوذها في منطقة تل رفعت”، أحد الأهداف المعلنة للعملية التركية.

حتى الآن تسيطر تركيا على ما يقارب 20 ألف كيلومتر من أراضي سوريا ونحو ثلث سكان البلاد بمن فيهم أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ إلى أراضيها. لكن مشروع أردوغان الراهن يصعب تحقيقه حرفياً بسبب تشعب علاقات وأدوار الأكراد السوريين ضد “داعش” والأتراك معاً، ولتشابك مصالحهم مع الأمريكيين والروس، الأمر الذي يجعل احتمالات التفاوض على أهداف العملية التركية أقوى من احتمالات الهجوم العسكري، وهو ما سيتضح خلال الشهر الحالي حتى انعقاد قمة حلف الأطلسي، وبديهي أن تركيا ستفاوض على خطين: خط الشريك الروسي الذي يستفيد من إبقاء علاقات تركيا متوترة مع الحلف ويأمل في تسويات تجعل للنظام دوراً في الشمال السوري، وخط الأمريكيين الذين يصعب تخليهم عن حلفائهم الأكراد، ويمكن أن يأخذوا المطالب التركية الاقتصادية والسياسية، خصوصاً المتصلة بانضمام السويد وفنلندا إلى “الأطلسي” في الاعتبار.

وفي مختلف الأحوال، لا تبدو رغبة الجانب الإيراني  بالاستفادة من الوضع القائم قابلة للتحقيق كما يأمل المخططون في طهران والعاملون منهم على الأرض السورية.

شاهد أيضاً

عند الأفق المسدود في غزة

بقلم: عبدالله السناوي – صحيفة الخليج الشرق اليوم- استغلقت حرب غزة على أي أفق سياسي …