الرئيسية / مقالات رأي / في جدلية قوة المنطق ومنطق القوة… والطريق الثالث

في جدلية قوة المنطق ومنطق القوة… والطريق الثالث

بقلم: حسن إسميك – النهار العربي

الشرق اليوم– ليس الجدل بين “قوة المنطق” و”منطق القوة” بالجديد على الإنسانية، بل يكاد يكون قديماً بقدمها، وكلما ارتفع الوعي البشري وراكم الإنسان معارفه وخبراته، وكلما أضاف مصطلحاتٍ جديدة على ترسانته المفاهيمية، كان هذا الجدل يتطور ويتوسع، وترجح كفة ميزانه مرة لناحية المنطق، ومرة لناحية القوة.. أو ربما مرات.

يفترض معظمنا أن هناك تناقضاً جوهرياً بين العقل والعنف، بين المنطق والقوة، وقد نفترض أيضاً أنَّ وصول البشرية إلى هذا المستوى العالي من التقدم والرقي والحضارة والمعرفة والتطور سيجعل قابليتها للاحتكام إلى القوة في حل أي من مشكلاتها وأزماتها أمراً مستبعداً، لكن إلقاء نظرة سريعة على مجمل الأحداث التي تدور على المسرح العالمي اليوم يجعلنا نسقط هذه الفرضية على الفور. إذ يعيش عالمنا طغياناً كبيراً لمنطق القوة على قوة المنطق، في قضايا كثيرة وفي الدول القوية والضعيفة، المتقدمة والنامية والمتخلفة، وتدور رحى الحروب في شتى بقاع المعمورة، بين الدول وداخلها، ويسود العنف والإقصاء، ومحاولات الهيمنة وفرض النفوذ بالقوة، وبالكثير من الأدوات المرتبطة بها.

مرة أخرى هذا ليس بالأمر الجديد، إذ ومنذ نشوء الدول الحديثة وعلى امتداد معظم تاريخ التفاعلات بينها طغى منطق القوة على قوة المنطق، ولطالما كانت القوة مفهومًا محورياً للغاية في دراسة العلاقات الدولية وفهم أسسها ومحدداتها وضوابطها وتغيراتها. ولا يمكن في هذا السياق إلا المرور على واحدة من أهم نظريات العلاقات الدولية وأوسعها انتشاراً، وهي النظرية الواقعية التي قامت ببناء مدرستها الفكرية بأكملها حول مفهوم “القوة”، حيث عرّف هانز مورغانثو دراسة السياسة الدولية من خلال المصالح المحددة من حيث القوة، وبالنسبة إلى كينيث والتز (1979) كان توزيع القوة هو المتغير الرئيس في تحديد طبيعة النظام الدولي، أما جون ميرشايمر (2001) فقد عدَّ القوة “عملة” سياسات القوى العظمى. ولم تكن “القوة” محورية بالنسبة لرواد الواقعية وحسب، إذ يقول ستيفانو جوزيني عالم السياسة الدنماركي في كتابه “البنائية والعلاقات الدولية” “إن القوة مفهوم مهم للغاية بحيث لا يمكن تركه للواقعيين”، لذا تعاملت كل نظريات العلاقات الدولية مع هذا المفهوم واحتوت على فكرة عن القوة، سواء أكانت صريحة أم لا: يفهم الليبراليون القوة من حيث التجارة، أو القوة الناعمة؛ فيما يقاربها الماركسيون من حيث قوى الإنتاج ورأس المال؛ والبنائيون من حيث “البناء الاجتماعي لسياسات القوة”… ما يعني أن لكل نظرية منظورها ومقاربتها للأدوات والطرق التي تستطيع من خلالها فواعل السياسة تحصيل القوة.

وعليه إذا أردنا أن نكون “واقعيين”، سواء بمعنى الكلمة العام، أو بما تحمله من معنى في العلاقات الدولية، علينا دائماً أن نفكر –كأفراد أو كدول– بامتلاك القوة، لكن وفي الوقت ذاته يجب أن يكون هناك منطق يحكمها ويعقلها، فالقوة بدون منطق جبروت وطغيان وعنف، والمنطق بلا قوة عاجز ومستهدف..

حتى عندما وصلت “قوة المنطق” أعلى مستوياتها زمن الدولة العربية الإسلامية الأولى، لم تكن لتحقق ما حققته لولا امتلاكها القوة المطلوبة، فقد حض الإسلام على المنطق والاحتكام للعقل، في تعامل المسلمين مع بعضهم، وفي تعاملهم مع الآخر –أياً كان، بعد أن كان  العرب يعيشون جاهلية حرفية ومجازية، فبالإضافة إلى الجهل كان الغالب في تلك المرحلة القبلية التعصب والميل للاقتتال والاستخدام الفوري للعنف الذي لم يولد إلا عنفاً مضاداً، ولا أظن أن هناك ما يعبر عن الوضع في ذلك الزمان أكثر من قول عمرو بن كلثوم في معلقته الشهيرة:

أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنْ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا  فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَ

في مقابل ذلك الواقع، جاء الإسلام محملاً بأفكار أقل ما يقال فيها أنها ثورة على ذلك الواقع، فلا أبالغ إذا قلت أن “قوة المنطق” بدأ كمفهوم، أو نال الدفع الأكبر على يد الإسلام والمسلمين، فقد قال الله تعالى في سورة النحل: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ وقال في سورة العنكبوت: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾..

أدى سير الدولة الإسلامية الأولى على هذا الهدى إلى تمكين الدعوة الإسلامية من الانتشار على نطاق واسع في العالم، وجعل جيوش المسلمين في الكثير من المناسبات التاريخية محل ترحيب من أهل المدن التي فتحوها. كلمة “فتح” بحد ذاتها تدلل على أن الأسلوب الذي اتبعه المسلمون جمع بين القوة والمنطق، وإلا لكان استخدام كلمات مثل “احتلال” أو “اغتصاب أرض” أو غيرها هو السائد والمنتشر.

هنالك مثال أكثر حداثة بكثير عن ارتباط المنطق بالقوة هو سياسة “الاحتواء” الشهيرة، التي استخدمتها الولايات المتحدة الأميركية في مواجهة التهديد الذي رأته من الاتحاد السوفياتي، والتي أدت نهاية الأمر إلى تفكك الاتحاد وانهياره. يرى البعض أن أميركا استخدمت في سياستها تلك “منطق القوة” وحده، لكن هذا جزء من الحقيقة، والعبرة في الخواتيم. بالفعل وفي عام 1946 تحديداً وعندما كانت الولايات المتحدة ما تزال تحاول تحديد الكيفية التي ستتعامل من خلالها مع عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، أرسل جورج كينان، القائم بالأعمال الأمريكي في موسكو حينها، والذي سيشتهر لاحقاً بـ “أبو سياسة الاحتواء”، برقية من 8000 كلمة إلى وزارة الخارجية معروفة باسم “Long Telegram” توضح بالتفصيل وجهات نظره بشأن الاتحاد، ويُقدم فيها ركائز تلك السياسة التي انتهجتها أمريكا لاحقاً خلال الحرب الباردة.. وبالفعل حذر كينان رؤساءه من أن الاتحاد السوفياتي “منيع ضد منطق العقل”، لكنه “حساس للغاية لمنطق القوة”. وبالتالي على واشنطن أن تهدد السوفيات “بقوة مضادة غير قابلة للتغيير في كل نقطة يظهرون فيها علامات التعدي على مصلحة عالم يسوده السلام والاستقرار [..] بذلك نشجع الميول التي يجب أن تجد في نهاية المطاف منفذًا لها إما في تفكك القوة السوفياتية أو التراجع التدريجي لها”. لقد أراد كينان أن تستخدم واشنطن “منطق القوة”، لكن دون استخدام القوة نفسها، فقد عارض تشكيل الناتو والدفاع عن كوريا في الخمسينيات والتدخل العسكري الأميركي في فيتنام في الستينيات. لم يرد الدبلوماسي الحذر أن تقع الحرب، وكأنه قرأ لعبد الرحمن الكواكبي قوله في “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”: “المستبد يتجاوز الحد ما لم ير حاجزاً من حديد فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفاً لما أقدم على الظلم.. كما يقال الاستعداد للحرب يمنع الحرب”.

لقد غلَّب كينان “المنطق” في “منطق القوة”، فجمع بذلك بين الاثنين، وبالفعل كان عمر الاتحاد السوفياتي أقصر من عمر كينان، حيث تفكك وانتهى بأقل قدر ممكن من الحروب ومن الخسائر والضحايا، ومن يدري لو التزم العالم اليوم بـ “قوة المنطق” والحوار لانخفضت الخسائر بقدر أكبر، ولربما ما كنا قد نشهد حرباً كالتي نشهدها اليوم بين روسيا وأوكرانيا.

اليوم أيضاً وفي سياق مماثل، يتعرض العرب إلى تهديد لا يختلف نسبياً عن التهديد الذي تعرض له الغرب من الاتحاد السوفيتي زمن الحرب الباردة، يأتي التهديد هذه المرة من إيران، فالنظام الذي يحكم تلك الدولة يذهب بـ “منطق القوة” حدود التطرف، إذ يرى في الدول العربية مجالاً حيوياً، يحق له أن يقوم فيها بكل أشكال زعزعة الاستقرار والتعدي والتَّغوّل. لا تختلف إيران اليوم كثيراً عن الاتحاد السوفياتي في الأمس –وإن اختلفت الجغرافيا ومستويات القوة إلى حد ما– من منظور العلاقات الدولية، فكلا الكيانين قوة مهمة غير قانعة بما لها من مكانة على الصعيد الدولي، وتريد بالتالي تعظيم نفوذها، وتستخدم لأجل ذلك مزيجاً من الإيديولوجيا والوكلاء (دول وتنظيمات دون دولية) والدبلوماسية والاستبداد، والقوة العسكرية متى لزم الأمر لذلك.

ولأن هذا التهديد الذي تشكله “الجارة اللدودة” معقد للغاية، فيجب بالتالي أن تكون الاستجابة على المستوى ذاته من التعقيد والشمول والتماسك، ويجب أن يكون فيها شيء من استراتيجية الدولة الإسلامية الأولى بدعم المنطق بالقوة، أو استراتيجية كينان التي استخدمت القوة بمنطق، أو بمعنى آخر الاستعداد للحرب لتحقيق “الإكراه”، فالحرب هي أن تفرض دولة إرادتها على دولة أخرى، في حين أن “الإكراه” هو أن تجعل –كدولة– دولةً عدوة تقبل مصالحك وتغير لأجلك رأيها حول ما هو في مصلحتها. حكماً ليس هذا بالأمر الهين، وكثيرة هي الأمثلة .

 يعتمد تغيير العقول إلى حد كبير على “المنطق” أو “الحوار” وتشكيل الخيارات المتاحة لتجنب الصراع. على عكس الحرب، حيث يعتمد النجاح على تدمير قوات العدو، بينما يعتمد الإكراه على موازنة التعاون والمعاهدات والمواجهة وتقديم خيارات بديلة للخصم تجعل من استمراره على نهجه الحالي أمراً مكلفاً للغاية. وأظن اليوم أن العرب أمام فرصة تاريخية، من ناحية ما يمتلكونه من قوة (تقليدية وناعمة)، وما يمكن أن يبنوه أيضاً من تحالفات بينية وإقليمية، وحتى دولية، مختلفة عن منظومة التحالفات المعتادة في المنطقة، حيث يمكنهم الاستفادة من اللحظة التاريخية الراهنة، فلأول مرة منذ عقود لا تندلع الحروب الجديدة على أرضهم، ولا يبدو أن التوتر بين القوى العظمى سينتهي عما قريب، وبالتالي يمكن للتعاون الإقليمي أن يؤدي أدواراً مهمة. بعبارة أخرى، يجب أن يعزز العرب وأن يظهروا قوتهم كي لا يستخدموها، ويجب أن يكونوا –في الوقت ذاته– على استعداد للحرب كي يسود المنطق.. طريقهم الثالث هو الجمع بين كلا الطريقين.

شاهد أيضاً

بأية حال تعود الانتخابات في أمريكا!

بقلم: سمير التقي – النهار العربي الشرق اليوم- كل ثلاثة او أربعة عقود، وفي سياق …