الرئيسية / مقالات رأي / إصلاحات قيس سعيّد من دون قيس سعيّد

إصلاحات قيس سعيّد من دون قيس سعيّد

بقلم: علي الصراف – العرب اللندنية

الشرق اليوم – الرئيس التونسي قيس سعيّد ليس دكتاتورا، ولا يريد أن يكون، إلا أنه جلب على نفسه التهمة، لأنه بطيء، لا يخوض النقاش، بل يُصدر مراسيم.

لقد رأى سعيّد الفشل، وأدرك مصادره، وقرر أن يتصدى له، مستخدما صلاحياته الدستورية، ولو مع بعض التأويل. ما يهم هو أنه لم يكن الوحيد الذي رأى الفشل. الغالبية العظمى من التونسيين عرفت مصادره أيضا، فوقفت إلى جانب سعيّد عندما قرر تجميد عمل البرلمان وإقالة الحكومة، ولكنه ظل لأسابيع طويلة يحكم بمراسيم رئاسية، وظل الناس ينتظرون تشكيل حكومة بديلة، ويتساءلون عن نهايات أزمة ظلت مفتوحة على احتمالات شتى.

وفي الخارج، الذي هو مصدر دعم رئيسي لاقتصاد تونس، فقد ظل الفراغ الحكومي شغلا شاغلا، حتى عثر سعيّد على من يمكن الثقة به، في شخص نجلاء بودن التي أوكل لها تشكيل حكومة، تحت إشرافه طبعا، إنما بعد أن فاض الكثير من الكيل بانتظار أن يتوفر بديل لإدارة مؤسسات البلاد.

تذرع سعيّد قبل ذلك، بأن إدارات الحكومة تعمل، بالصف الثاني من المسؤولين. حتى لكأنه أراد أن يقول إن تشكيل حكومة ليس قضية مهمة بحد ذاتها.

سبب التباطؤ كان يعود بالدرجة الأولى إلى أنه لم يرغب بأن يُلدغ من الجحر نفسه مرتين، وأراد أن يعثر على رئيس حكومة لا ينقلب عليه، أو يتواطأ ضده كما فعل هشام المشيشي.

احتاج سعيّد أشهرا طويلة من بعد ذلك لكي يقرر ما هي الخطوات الإصلاحية الواجب الأخذ بها، وما هو السبيل إلى تحويلها إلى قاعدة دستورية جديدة.

ثم أخذ وقته حتى في هذا، بأن جعل الاستفتاء حولها يجري بعد نحو ثمانية أشهر من تاريخ الاستقرار عليها، والانتخابات بعدها بستة أشهر أخرى.

لم يطرق الرئيس سعيّد الحديد وهو حامٍ. تركه يبرد. حتى لم يعد ينفع فيه الطرق. وبدلا من أن يكسب رهان التأييد للإصلاحات من دون إبطاء، فقد ترك لخصومه، وبخاصة طبقة الفساد السياسي التي تقودها حركة النهضة، أن يستغلوا امتداد الوقت، ليعودوا إلى شعارات الديمقراطية والتنديد بالاستبداد، ويتسللوا من جديد إلى الشارع، سعيا للسلطة، من حيثما كانوا قد خربوها في السابق.

لا يكفي أن تكون على حق، يجب أن تكون قادرا على إقناع الناس به أيضا. وفي ظل أزمة اقتصادية تزداد ضغطا على معاش الملايين، فإن “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك”. وهذا ما حصل. البطء تحول إلى سيف تقطعت به أواصر سعيّد مع الناس فتراجعت ثقتهم به.

لغته العربية الفصيحة نفسها أظهرته وكأنه كائن خشبي. إدارة السلطة ليست شيئا يشبه كتابة مقال، مثل هذا. والتونسيون حتى وإن أحبوا اختلافه عن الطبقة السياسية السائدة، إلا أنهم ما كانوا ينتظرون معاوية بن أبي سفيان ليتخاطب معهم على نحو ما يفعل سعيّد. كانوا يريدون أن يروا رئيسا يتحدث بلغة معاناتهم، ويخاطب مشاعرهم من حيث تنغمس في أنفسهم بتعابيرها اليومية هي بالذات.

الكثير من قادة هذه الأمة لا يُجيدون اللغة العربية، مع الأسف. وإذا قرأوا سطرين تعثروا بهما، ما يجعل صمتهم أفضل، ولكنهم يجيدون تماما مخاطبة شعبهم بما يفهم. وفي الكثير من الأحيان ينجحون في توصيل أعقد المسائل من وجهة نظر تلقى القبول والتفهم، حتى ولو كانت ظالمة أحيانا، أو تقول نصف الحق وتخفي النصف الباطل.

لقد حصل سعيّد على أصوات ثلاثة أرباع التونسيين، أولا، لأنهم ضاقوا ذرعا بطبقة الفساد السياسي التي يقودها راشد الغنوشي وأقرانه. وثانيا، لأنه مستقل. وثالثا، لأنه متجرد من أحمال الماضي، تجرده من أحمال الفوضى التي تلت ذلك الماضي. ورابعا، لأنه نزيه وطاهر اليد. وخامسا، لأنه تكنوقراط يمكن أن يميل، بحكم طبعه وخبرته، إلى نظراء من مثله. وسادسا، لأنه نزل على عالم السياسة بالبراشوت، فلم تُعرف له مثالب. وسابعا، لأنه فقير مثلهم، يعيش على راتبه، أو بالكثير، من طبقة وسطى سحقتها الأيام.

هذه صفات شخصية مثالية إلى حد بعيد، بالنسبة إلى مجتمع مأزوم. هات مثلها في أي مجتمع مأزوم، ولسوف أضمن لك فوزا مماثلا، ولكن ينقصها الطبع “الرئاسي”.

مجتمعاتنا تميل إلى المثالية، لأن المثاليات من قبيل الشرف والنزاهة والمروءة والكرامة تلعب دورا مهما في تكوين الانطباعات.

وعكسها مكروه بطبيعة الحال. وهو ما جعل طبقة الفساد السياسي في تونس، وأخصائيي العيش في عالم الفوضى، منبوذين إلى أقصى درجة من درجات إثارة الإحباط واليأس.

بين المثالي والمكروه، ظلت هناك حاجة إلى رئيس قادر على خوض النقاش، والانخراط في المساجلات العامة من أجل أن يحافظ على ما اكتسبه من زخم التأييد، لا أن يكتفي بالقناعة أنه على حق، ولا أن يُحوّل قناعاته إلى مراسيم.

ثمّ مَنْ هو هذا الغنوشي لكي يتحول إلى منادٍ بالديمقراطية؟ كم كيلو بطاطا تساوي تبجحاته بالشرعية البرلمانية؟ وماذا فعل بها عندما كان رأسها؟

سعيّد ليس دكتاتورا، ولا يريد أن يكون، إلا أن مراسيمه السلطوية هي التي تظهره كذلك. الرجل أقرب إلى قاضي محكمة. يسمع الأدلة والبراهين، ثم يقول قولا هو الفصل. وانتهت القصة. وبما أنه نزيه، فعلى الجميع الامتثال لسلطته.

السياسة لا تشتغل على هذا النحو. السياسة قناعات، لا يوجد فيها صحيح مطلق، ولا حق مطلق، ولهذا السبب فإن خوضها يتطلب فوزا بزخم والمحافظة عليه. ولكن، حيث أن سعيّد لا يملك من أدوات الإدارة غير إصدار الأحكام والمراسيم، فإنها هي التي تزيد الشبهات بأنه سوف يتحول إلى طاغية آخر. قصدَ ذلك أم لم يقصد.

ما يختطه سعيّد من إصلاحات إيجابي وأثبتت التجربة الحاجة الماسة إليه، وخاصة في الجانب المتعلق بتغيير النظام من برلماني إلى رئاسي. ولكن من دون سعيّد، لأنه لا يمتلك، كما أثبت حتى الآن، مواهب رئاسية.

الرئاسة كاريزمان نفوذ معنوي، حضور طاغ بجاذبيته، لا بمراسيمه.

تونس لم تخطئ بانتخاب سعيد إلى الرئاسة. أبدا. ولكن تونس المأزومة هي التي انتخبت. الذي انتخب هو مشاعر الإحباط والنفور من كل خارطة الصعاليك والصغار والمنتفعين والمتسلقين الذين داروا بالمجتمع التونسي السبع دورات بلا طائل على امتداد 11 عاما متتالية.

تونس بحاجة إلى إصلاحات سعيّد، ولكنها بحاجة إلى رئيس يمتلك كل صفاته زائد واحدة إضافية.

وبالأمل والثقة التي يضعها أصدقاء تونس في الخارج بقدرة هذا البلد على شق الطريق إلى استئناف التقدم والاستقرار، فإن هذا الطريق سوف يُفتح عندما تعود تونس لتنتخب رئيسا شابا، متفاعلا، نزيها، يكسب القناعات ويطرق حديد الإصلاح وهو حام.

شاهد أيضاً

روسيا التي لا تساند أحداً… علاقة غير عادلة مع إيران

بقلم: يوسف بدر – النهار العربي الشرق اليوم– في مقالته في صحيفة “وول ستريت جورنال” …