الرئيسية / مقالات رأي / الحرب.. ومستقبل النظام الدولي

الحرب.. ومستقبل النظام الدولي

بقلم: د. إدريس لكريني – صحيفة “الخليج”

الشرق اليوم – منذ اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية، وما تلا ذلك من تطورات متسارعة أعقبها تدخل القوات الروسية في العمق الأوكراني، واعتماد مجموعة من الدول الغربية لعقوبات مختلفة في مواجهة روسيا، طُرح الكثير من الأسئلة بصدد الدوافع التي جعلت الأمور تتطور بشكل متصاعد وغير مسبوق، وكذا الآثار المحتملة لما يجري بالنسبة للسلم والأمن الدوليين، وعلى مستوى مستقبل النظام الدولي، خاصة أن الأمر يتعلق بنزاع يجري داخل العمق الأوروبي، وبين أطراف لها مكانتها ووزنها على الصعيدين الإقليمي والدولي.

منذ نهاية «الحرب الباردة» وانهيار المعسكر الشرقي، حاولت الولايات المتحدة مدعمة بعدد من حلفائها الغربيين في أوروبا، أن تفرض منطقها على العلاقات الدولية، مستثمرة في حالة الارتباك التي عمت الساحة الدولية مع تفجر الأوضاع السياسية والعسكرية في عدد من بلدان العالم، وعدم جاهزية عدد من الدول الكبرى، كالصين، للاستئثار بأدوار طلائعية على الصعيد الدولي.

ووسط هذه التحولات والمتغيرات التي بدا فيها استئثار الولايات المتحدة بإدارة كثير من القضايا والأزمات الدولية تبعاً لرؤيتها، مع العمل على توجيه الأمم المتحدة بما يخدم مصالحها واستراتيجياتها، كانت روسيا منكبّة على ترتيب شؤونها الداخلية، وعلى مواجهة الانعكاسات السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية المترتبة على تفكك الاتحاد السوفييتي، وهو ما عزز من الطموحات الأمريكية المتزايدة، والرامية إلى إرساء نظام دولي أحادي القطبية، والدفع باتجاه تمدد حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي تأسس في عز الحرب الباردة عام 1949 (كأحد تجليات سباق التسلح) ليضم عدداً من دول الاتحاد السوفييتي (سابقاً) كإستونيا ولاتفيا وليتوانيا، ودول أوروبا الشرقية التي كانت تسبح في فلك المعسكر الشرقي، كجمهورية التشيك وهنجاريا وبولندا وبلغاريا ورومانيا وألبانيا.

لا تخفي الكثير من الدول الأوروبية رغبتها في التحرر من الدور الأمريكي المتنامي ضمن منظومة الأمن الأوروبي، وإرساء أمن إقليمي مستقل في إطار الاتحاد الأوروبي، بعدما تمكنت هذه الأخيرة من تجاوز الإشكالات التي ترسبت عن نهاية الحرب العالمية الثانية بمختلف تجلياتها، وتحقيقها لعدد من المكتسبات الاقتصادية والسياسية، وهو ما يفسر التباين الحاصل في المواقف بين إدارة البيت الأبيض من جهة، وتوجهات عدد من الدول الأوروبية، بصدد عدد من الملفات والقضايا الدولية الكبرى كالملف النووي الإيراني والأزمة السورية والقضية الفلسطينية.

أما روسيا فظلت ترفض تمدد حلف «الناتو» على مشارفها، وخاصة من الجهة الشرقية على الحدود مع أوكرانيا التي ظلت تعبرها خلفية استراتيجية بالنسبة لها. وأمام التوجهات التي اختارتها كييف على مستوى التقارب مع الحلف في أفق الانضمام الرسمي، قامت روسيا بعملها العسكري الذي ربطته بأهداف محددة، يبدو أنها ترتبط في جزء كبير منها، بتدمير البنى العسكرية في البلاد والعمل على إرساء نظام سياسي موال لها، تبعاً لما كانت تطمح له منذ عدة سنوات، بما يتيح جرها إلى قائمة الحلفاء، أو تحييد دورها في أقل الأحوال.

ثمة كثير من الأسئلة المؤرقة التي تفرض نفسها، مع إصرار روسيا على تنفيذ أجندتها داخل أوكرانيا من جهة، وإصرار عدد من الدول الغربية على فرض عقوبات سياسية ومالية واقتصادية على موسكو من جهة أخرى.

كثير من المؤشرات تُبرز أن موسكو واعية خيارها الصعب وانعكاساته الآنية والمستقبلية. فقد أفشلت إصدار قرار يدينها من داخل مجلس الأمن الذي تحظى فيه بالعضوية الدائمة وبحق الاعتراض (الفيتو)، كما أنها تمتلك عدداً من الأوراق الضاغطة، كعدد من حلفائها، وكذا ترسانتها النووية الضخمة ومخزونها من الغاز والنفط، إضافة إلى العديد من مقومات الأمن الغذائي التي تزخر بها أوكرانيا كالقمح.

لا شك في أن ما يجري اليوم في أوكرانيا، سيفتح النقاش من جديد بشأن مستقبل الأمن الأوروبي، وارتباطاته بالولايات المتحدة، وخصوصاً مع الإعلان عن توجه بعض الدول كألمانيا نحو التسلح غير المسبوق.

تحيل التطورات المتسارعة أخيراً، إلى أن تبدلات كبرى ستهز أركان النظام الدولي القائم، تجد معه الكثير من دول العالم نفسها أمام وضع يصعب فيه الاختيار بين التموقع في هذا الجانب أو ذاك، وهو ما يذكر بظروف الحرب الباردة، لكنّ هناك عدداً من الدول الأخرى التي استوعبت هذه المتغيرات وبادرت إلى إعادة النظر في علاقاتها وترتيبها، بما يضمن حماية مصالحها.

وأمام هذا الوضع أصبح من اللازم على دول المنطقة العربية أن تعيد النظر في تموقعاتها، وتنبذ خلافاتها البينية، وتعزز التعاون والتنسيق بينها، وتوظف الإمكانيات البشرية والطبيعية والاقتصادية المتاحة، بما يضمن تعزيز أمنها الإنساني الشامل، ويوفر لها شروط الاستئثار بمكانة لائقة بين الأمم، بدل التفاعل السلبي مع الأحداث الذي جعل منها في السابق ضحية للنظام الدولي الذي أعقب نهاية الحرب الباردة.

شاهد أيضاً

أحلام مقتدى الصّدر وأوهام مناصريه

بقلم: فاروق يوسف- النهار العربيالشرق اليوم– عندما يُشفى العراقيون من عقدة اسمها مقتدى الصدر يكون …